
يتصاعد الجدل في العراق حول دقة مؤشرات التضخم الرسمية في وقت تكشف فيه المؤسسات الدولية والحكومية عن اتجاهات متباينة في قراءة حركة الأسعار داخل السوق المحلية. فبينما تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى مسار نزولي في التضخم العراقي على مدى السنوات المقبلة، يرى عدد من الخبراء أن المؤشرات الرسمية لا تزال بعيدة عن الواقع الذي يعيشه المواطن يومياً.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فقد سجل التضخم في العراق خلال 2024 نسبة 3.6%، منخفضاً عن 5.3% في 2023 و5% في 2022، مع توقع الصندوق بأن ينخفض المعدل بشكل أكبر ليصل إلى 2% بحلول عام 2028.
إلا أن هذه الأرقام تأتي في وقت تؤكد فيه وزارة التخطيط العراقية أن التضخم شهد في شهر أيلول الماضي ارتفاعاً طفيفاً بنسبة 0.2% مقارنة بشهر آب، بينما انخفض التضخم السنوي خلال الشهر نفسه بنسبة 0.3% مقارنة بأيلول 2023، وفق المتحدث باسم الوزارة عبدالزهرة الهنداوي.
وتظهر تفاصيل تقرير وزارة التخطيط تبايناً في حركة الأسعار؛ إذ انخفضت أسعار الأغذية والمشروبات غير الكحولية بنسبة 0.2% متأثرة بانخفاض أسعار الأسماك (5.5%) واللحوم (0.7%) والخبز والحبوب (0.2%). كما تراجعت أسعار الملابس والأحذية بنسبة 0.8%، إضافة إلى انخفاض طفيف في أسعار التجهيزات المنزلية والاتصالات والفنادق بنسبة 0.1% لكل منها، فيما شهد قسم الترفيه والثقافة انخفاضاً بنسبة 0.3%. في المقابل، ارتفعت أسعار السكن بنسبة 0.9%، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار التبغ (0.2%) والصحة (0.4%) والسلع والخدمات المتنوعة بنسبة لافتة بلغت 2.2%.
ورغم هذه الأرقام التي يقدمها الصندوق الدولي والجهات الرسمية، يرى الباحث المالي أحمد هذّال أن التضخم الحقيقي أعلى بكثير من المعلن، مؤكداً أن المسح الذي تجريه وزارة التخطيط يعاني من مشكلات في العينات والأوزان، ما يجعل البيانات "غير عاكسة للواقع الفعلي".
ويشير الحميدواي إلى ارتفاع أسعار العديد من السلع بنسبة تصل إلى 100% في بعض الحالات و50% في حالات أخرى، بينما لا تظهر هذه القفزات في المؤشر الرسمي.
ويؤكد أن استبعاد تأثير سعر الصرف الموازي من حساب التضخم يجعل المؤشر “غير واقعي”، لافتاً إلى أن فهم نوع التضخم — سواء كان مستورداً أو نقدياً أو بنيوياً — يصبح شبه مستحيل في ظل ضعف قاعدة البيانات.
ويذهب الخبير الاقتصادي منار العبيدي أبعد من ذلك بالتساؤل عن الجدوى من استمرار إصدار بيانات لا تعبر عن الواقع، مشيراً إلى أن تقرير التضخم لشهر أيلول أظهر انخفاضاً في بعض البنود رغم أن السوق يشهد ارتفاعات واضحة.
ويؤكد العبيدي أن طريقة جمع البيانات تشكل الخلل الأكبر، بينما تبرز مشكلة إضافية في غياب أوزان حقيقية للمحافظات، إذ لا يمكن مساواة بغداد — التي تضم أكثر من 20% من سكان البلاد — بمحافظات صغيرة مثل المثنى. ويرى أن اختلاف القوة الشرائية ومستويات الأسعار بين المحافظات يجب أن يُترجم في المؤشر النهائي ليعكس صورة أكثر دقة عن التضخم الفعلي.
وفي سياق متصل، يشير الخبير علي دعدوش إلى أن اختلاف الثقافات الاستهلاكية بين المدن يعمّق من فجوة البيانات، لافتاً إلى أن أسعار الملابس ترتفع عادة في شهر أيلول مع بدء الموسم الدراسي، بينما أظهر التقرير الرسمي انخفاضاً بنسبة 0.8%، ما يعزز الاعتقاد بأن آليات جمع البيانات لا تلتقط التحركات الموسمية بدقة.
غير أن الخبير الاقتصادي فالح الزبيدي يقدم رؤية مختلفة، إذ يرى أن التضخم في العراق يرتبط أساساً بسعر الصرف وحجم عرض النقود، وأن اعتماد معظم السلع على الاستيراد يجعل من التقلبات النقدية العامل الأكثر تأثيراً، بينما لا يشكل التقسيم الجغرافي للمحافظات عاملاً حاسماً في حساب التضخم ما دامت السوق موحدة. ويعتبر الزبيدي أن ارتفاع السكن هو صاحب الحصة الأكبر في دفع التضخم إلى الأعلى، بينما تبقى مهمة السيطرة على مستواه مسؤولية البنك المركزي، فيما يقع على عاتق الحكومة معالجة التفاوتات الاقتصادية بين المحافظات عبر تحفيز الاستثمار.
وتبرز من خلال هذا الجدل صورة واضحة: أن التضخم في العراق لا يعاني فقط من ارتفاع الأسعار أو تقلبات الأسواق، بل من غياب منهجية موحدة ودقيقة لقياسه، ومن تباين كبير بين ما يرصده المواطن في حياته اليومية وما يظهر في التقارير الرسمية والدولية.
وبين مؤشرات صندوق النقد، وبيانات وزارة التخطيط، واعتراضات الخبراء، يبدو أن الطريق نحو قراءة دقيقة للتضخم يتطلب إصلاحاً شاملاً في قواعد البيانات، وطرق جمع الأسعار، وأوزان المحافظات، بما يجعل المؤشر أكثر قرباً من الواقع وأقدر على توجيه السياسة الاقتصادية في البلاد.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام