لماذا تشكل الاختلالات التجارية مصدر قلق أثناء فترات الانكماش العالمي؟
الدكتور مهند طالب الحمدي

 

مثل الأزمات الأخرى التي سبقتها، يبدو أن أحد نتائج جائحة كورونا هو إبراز السمات المزعجة للاقتصاد العالمي. يمكن النظر إلى الاختلالات التجارية العالمية كمثال. على الرغم من إضمحلالها لفترة وجيزة عندما ضربت الجائحة لأول مرة، إلا أنها انتعشت الآن. سجلت الولايات المتحدة أكبر عجز تجاري لها منذ 14 عاماً في شهر آب الماضي، على الرغم من تحولها من مستوردٍ كبير للنفط إلى مُصدرٍ صافٍ في ذلك الوقت. يقابل ذلك عجز تجارة السلع الأمريكية بشكلٍ دقيق ومتوازن مع الفائض التجاري الصيني المُتجدد. يمكن إعتبار بعض العوامل المؤقتة سبباً لذلك مثل زيادة صادرات الصين من معدات الحماية الصحية الشخصية. لكن هناك ما يدعو للقلق من استمرار تصدع تلك التشابكات مما يُضيف عنصراً خطيراً إلى بيئة السياسة العالمية المشحونة بالفعل.

 

وصلت الاختلالات التجارية العالمية حديثاً إلى الذروة قبل اندلاع الأزمة المالية 2007-2009، عندما بلغ المجموع المطلق لفوائض وعجز الحساب الجاري لبلدان العالم أكثر من 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. توسعت فجوات الحساب الجاري جزئياً بسبب ما أطلق عليه الاقتصاديون تسمية "تخمة الادخار العالمية"، نتيجة لارتفاع أسعار النفط، والادخار الاحترازي الذي إتخذته بعض حكومات الاقتصادات الناشئة من أجل الاستعداد لاحتمال حصول انعكاسات مفاجئة في شهية المخاطر العالمية. تراجعت الفجوات في العقد الذي تلى الأزمة مع انخفاض أسعار النفط واتجاه الصين نحو إعادة توازن اقتصادها. مع ذلك، عشية انتشار الجائحة، ظلت الاختلالات في توازن الفائض والعجز عند حوالي 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي ما يقرب من مرة ونصف من المستوى الذي كان سائداً في أوائل التسعينيات. منذ ذلك الحين، توسعت الفجوات التجارية في بعض البلدان، وقفز عجز الحساب الجاري الأمريكي، الذي بلغ 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2019، إلى 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في منتصف 2020. تحول توازن الحساب الجاري للصين من فائض بنسبة 1.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر عام 2019 إلى عجزٍ في الربع الأول من عام 2020، قبل أن يعود إلى فائض بنسبة 3.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من العام ذاته.

 

فجوات الحساب الجاري ليست سيئة بطبيعتها. قد يستهلك الاقتصاد النامي الذي يحتاج إلى الاستثمار، على سبيل المثال، أكثر مما ينتج لفترة من الوقت بينما يبني قدرته الإنتاجية، ويتمكن من امتلاك الآليات اللازمة لسداد الالتزامات الخارجية المتراكمة في المستقبل. لكن في بعض الحالات يمكن أن تكون مصدر أزمة، إذا كانت تعكس تراكم نقاط ضعف مالية. تصبح هذه المشكلات إشكالية بشكلٍ خاص من خلال صلاتها المتزايدة بالاقتصاد العالمي اليوم، بالذات في أوقات انخفاض الطلب. تدير الاقتصادات فوائض في الحساب الجاري عندما تنتج أكثر مما تستهلك. عندما يكون هناك قدر كبير من الطلب العالمي، يصبح الأمر أكثر إزعاجاً بشكل بسيط لاقتصادات العجز، التي تتمتع باستهلاك أكبر مما تسمح به طاقتها الإنتاجية المحلية وحدها. ومع ذلك، عندما يكون الطلب شحيحاً، تستنزف البلدان ذات الفائض القوة الشرائية من شركاءها التجاريين عندما يكون لديها القليل من الأشياء القيمة مما يمكن أن تبقيه.

 

في بحث نُشر في عام 2015، وصف الاستاذ ريكاردو كاباليرو، استاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والاستاذ بيير أوليفييه غورينشاس من جامعة كاليفورنيا-بيركلي والاستاذ إيمانويل فارهي من جامعة هارفارد، هذا التأثير. أطر الأساتذة حجتهم من جانب الطلب على الأصول الآمنة. على الصعيد العالمي، يجب أن يقابل كل فائض عجز، ويجب تلبية الادخار في بلدٍ معين عن طريق الاقتراض من بلدٍ آخر. تدخر الدول ذات الفائض عن طريق شراء السندات الحكومية الأجنبية. عندما تكون أسعار الفائدة العالمية أعلى بكثير من الصفر، تؤدي هذه المشتريات ببساطة إلى دفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض، مما يدفع البلدان ذات العجز إلى الاقتراض والإنفاق أكثر. عندما تنخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، تتوقف هذه القناة عن العمل، حيث لا يمكن أن تنخفض أسعار الفائدة أكثر من ذلك. بدلاً من ذلك، لابد أن تأتي الزيادة التعويضية في الاقتراض في البلدان التي تعاني من عجز من خلال تضاؤل الدخول: أي الركود.

 

منذ الأزمة المالية 2007-2009، أصبحت أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم الغني قريبة من الصفر، مع استثناءات قليلة وجيزة. اقتربت أجزاء من العالم الناشئ من الوقوع في مستنقع الأسعار المنخفضة عام 2020. في ظل هذه الظروف، يعد التوسع المالي، الذي يزيد المخزون العالمي من السندات الحكومية، وسيلة فعالة لتعزيز النمو، داخل الدولة التي تقوم بالتحفيز وخارجها. يعكس العجز الضخم في الحساب الجاري الأمريكي جزئياً الاستهلاك القوي للسلع المنتجة في الداخل والخارج، بدعمٍ من عمليات التحفيز. لكن القرارات المتعلقة بالتيسير النقدي تصبح أكثر صعوبة. يتأتى جزء من تعزيز النمو، خاصة بالمعدلات المنخفضة، من انخفاض قيمة العملة، مما يساعد المصدرين على الحصول على حصة أكبر من إنفاق الشركاء التجاريين. في ثلاثينيات القرن الماضي، فرضت البلدان التي كانت على الطرف غير الرابح من عمليات الاستحواذ على الطلب، تعريفات جمركية كحواجز تجارية، مما أدى إلى تصاعد نمط الحمائية وانهيار نظام التجارة العالمية.

 

اليوم، يمكن للتحفيزات المالية الجريئة أن تجنب العالم هذا المصير. لكن الحكومات أصبحت بالفعل أقل إنفاقاً مما كانت عليه في ربيع 2020. في يوم 6 تشرين الأول العام الماضي، أنهى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب محادثاته مع قادة الكونغرس بشأن جولة جديدة من التحفيز المالي. في اليوم الذي سبق، تحدث السيد ريشي سوناك، وزير المالية البريطاني، عن الحاجة لجعل المالية العامة تحت السيطرة. إذا تم تقليص حزم التحفيزات المالية، فإن ذلك يترك التيسير النقدي يبدو، وعلى نحوٍ متزايد، كأنه عملية بمحصلة صفرية. ساهم تعديل معتدل في استراتيجية بنك الاحتياطي الفيدرالي في شهر آب الماضي في انخفاض قيمة الدولار مقابل اليورو، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الانكماش في أوروبا. من جانبها، تضع الولايات المتحدة بعض البلدان ذات الفائض المالي في مرمى النيران. في الثاني من تشرين الأول 2020، فتحت وزارة الخزانة الأمريكية تحقيقاً في احتمال تلاعب فيتنام بقيمة عملتها. يشير النمو السريع في فائض احتياطيات النقد الأجنبي لعدد من الاقتصادات الآسيوية إلى أن الحكومات تتدخل لخفض قيمة عملاتها، كما يرى السيد براد سيتسر من مجلس العلاقات الخارجية،  والاقتصادي السابق في وزارة الخزانة الأمريكية. قد تتكثف الرقابة الأمريكية على الصين إذا ظلت الاختلالات التجارية واسعة. على الرغم من انخفاض الدولار مقابل اليوان بنحو 5٪ منذ شهر آيار الماضي، إلا أن بعض الأدلة تشير إلى أن الصين قد تصرفت بخبث لإبطاء وتيرة ارتفاع عملتها.

 

كانت الخلافات التجارية في السنوات الأخيرة، ومن نواحٍ كثيرة، عبارة عن رد فعلٍ متأخر على صراعات اقتصادية سابقة، أشعلتها اختلالات ميزان المدفوعات الجاري المستمرة. ربما تتلاشى، او تتقلص تلك الخلافات التجارية، إذا استمر توسع الاقتصاد العالمي. بدلاً من ذلك، يجد العالم نفسه مرتبطاً مرة أخرى بحقائق قاسية تبرزها اقتصاديات الكساد. إذا لم يتم نزع فتيل الخلافات التجارية من خلال تقديم المصلحة الذاتية المستنيرة والتعاون، فيمكن أن تصبح الاختلالات، وبسهولة، أساساً لصراع اقتصادي منهك.

 

أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة ولاية كنساس، الولايات المتحدة الأمريكية.


مشاهدات 1587
أضيف 2021/03/24 - 2:58 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 6037 الشهر 65535 الكلي 8061193
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/4/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير