العراق يغلق صفحة الاستيراد ويفتح باب التصدير.. اكتفاء ذاتي تاريخي في المشتقات النفطية

الاقتصاد نيوز - بغداد

في تحوّل اقتصادي هو الأول من نوعه منذ أكثر من عقدين، أعلنت الحكومة العراقية رسميًا التوقف الكامل عن استيراد المشتقات النفطية الرئيسية، وفي مقدمتها البنزين وزيت الغاز (الكاز) والنفط الأبيض، بعد أن حققت البلاد اكتفاءً ذاتيًا تامًا في إنتاج هذه المواد.

الإعلان، الذي ورد في وثيقة رسمية صادرة عن مكتب رئيس الوزراء محمد شياع، أكد أن الفائض من هذه المنتجات سيتم تحويله إلى التصدير، بعد أن تجاوز الإنتاج المحلي مستوى الاستهلاك الداخلي، في خطوة وُصفت بأنها نقطة تحوّل حاسمة في مسار قطاع الطاقة العراقي.

هذا الإنجاز جاء تتويجًا لجهود حكومية استمرت ثلاث سنوات، ركزت على تشغيل مصافٍ جديدة وتأهيل المصافي المتضررة جراء الحروب والإرهاب، ضمن رؤية استراتيجية تهدف لتقليص الاعتماد على الخارج، ولا سيما إيران، التي كانت المورد الرئيسي للمشتقات المستوردة في السنوات الماضية.

وأصبح العراق، ثاني أكبر منتج في منظمة "أوبك"، على أعتاب مرحلة جديدة من الاستقلال الطاقوي، لا تقتصر على المشتقات النفطية، بل تمتد إلى ملف الغاز الطبيعي أيضًا، حيث وقّعت الحكومة مؤخرًا عقدًا مع شركة "إكسيليريت إنرجي" الأميركية لإنشاء منصة عائمة للغاز الطبيعي المسال بطاقة استيعابية تصل إلى 15 مليون متر مكعب يوميًا، بهدف تغذية محطات الكهرباء بالوقود النظيف وبكلفة تشغيلية أقل مقارنة بالمنصات الثابتة.

رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أكد أن حكومته وضعت جدولًا زمنيًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل من الغاز بحلول عام 2028، مشيرًا إلى أن العراق بات يملك القدرة على إنتاج البنزين عالي الأوكتان محليًا، ويواصل تعزيز شراكاته مع الشركات الأميركية لتدريب الملاكات الوطنية على أحدث تقنيات الطاقة وتطوير حقول النفط والكهرباء.

ويأتي هذا التوجه في ظل استمرار التقلبات في الإمدادات الإيرانية من الغاز، التي طالما شكلت عامل ضغط مزدوج على العراق، سواء من جهة ارتفاع الاستهلاك المحلي الإيراني، أو من جهة العقوبات الدولية المفروضة على طهران.

في ذات السياق، أكد نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الطاقة ووزير النفط حيان عبد الغني أن العراق تمكن من تحقيق زيادة كبيرة في معدلات الإنتاج داخل قطاع التصفية، ما مكن البلاد من بلوغ الاكتفاء الذاتي، وقلّص الحاجة إلى الاستيراد إلى الحد الأدنى، على أن يتوقف كليًا بنهاية العام الحالي.

وأشار إلى تشغيل مشاريع ضخمة مثل مصفى كربلاء، وإعادة تأهيل مصفى الصمود في بيجي، وافتتاح وحدات جديدة في مصافي الصينية وحديثة والجنوب، أبرزها وحدة FCC بقدرة 55 ألف برميل يوميًا.

وبينما يتجه العراق إلى استثمار كامل للغاز المصاحب بحلول عام 2029، كشف الوزير أن نسبة استثماره ارتفعت من 53% إلى 74% منذ تولي الحكومة الحالية مهامها، ما يعكس التزام العراق بتنفيذ مقررات مؤتمر باريس للمناخ، والحد من الانبعاثات الحرارية عبر مشاريع طاقة متجددة قيد التنفيذ بالتعاون مع شركات دولية، من بينها "توتال" الفرنسية.

وفي الوقت الذي يحقق فيه العراق طفرات في إنتاج المشتقات النفطية، سجلت لجنة النفط والغاز البرلمانية وصول الطاقة التكريرية إلى مستويات غير مسبوقة، بلغت نحو 1.5 مليون برميل يوميًا، وهو ما انعكس على تقليص استيراد البنزين العادي إلى ما يقارب 15%، والبنزين المحسّن إلى 80%، مع دخول أكثر من 25 مليون لتر يوميًا إلى السوق المحلية.

الخبير في الشأن النفطي أحمد عسكر وصف القرار الحكومي بإيقاف استيراد البنزين والكاز والنفط الأبيض بأنه يأتي في توقيت استراتيجي، ويعكس إدارة فعالة للموارد النفطية بعد أن كانت خزينة الدولة تنفق مليارات الدولارات سنويًا لتغطية النقص في هذه المواد. وأوضح أن هذا التحول سيوفر تلك المليارات لتُعاد توجيهها إلى مشاريع التنمية والبنية التحتية، مؤكدًا أن الاكتفاء الذاتي لم يكن ليتحقق لولا الاستثمارات طويلة الأمد في المصافي وتطوير الصناعات التحويلية.

ولم يخفِ عسكر وجود تحديات مستقبلية، منها ضرورة ضمان استدامة الإنتاج، وتحقيق فائض مستقر للتصدير، إضافة إلى ضبط السوق المحلي من حيث الجودة والأسعار. كما أشار إلى أهمية تعزيز التخزين الاستراتيجي للمشتقات وربط المصافي بمنظومة نقل وتوزيع متكاملة تضمن عدالة التوزيع بين المحافظات.

بهذا الإنجاز، يخطو العراق بثبات نحو إنهاء عهد الاعتماد على الخارج في تأمين المشتقات النفطية، وينتقل إلى مرحلة جديدة من السيادة الاقتصادية على موارده، في وقت تتجه فيه الحكومة إلى تنويع مصادر الطاقة وتحقيق التكامل بين الإنتاج النفطي والكهربائي. ومع اكتمال مشاريع المصافي الكبرى، تدخل البلاد فصلًا جديدًا من تاريخها الصناعي، يكتبه التخطيط لا الطوارئ، والسيادة لا الحاجة، والتنمية لا العجز.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام


مشاهدات 218
أضيف 2025/11/06 - 6:25 PM