الاقتصاد نيوز - بغداد
في وقتٍ يشهد فيه العالم ازديادًا مطّردًا في تبنّي العملات المشفّرة وتنظيم تداولها ضمن أطر قانونية واضحة، يبرز العراق كمفارقة لافتة: ففي ظل حظر رسمي وتحذيرات من مخاطر مالية وأمنية، جاء العراق في المرتبة 44 عالميًا من أصل 151 دولة في مؤشر "التبني العالمي للعملات المشفرة"، متفوقًا على دول خليجية وعربية ذات اقتصاديات مستقرة وبنى تحتية تقنية متقدمة.
هذا التصنيف، وإن دلّ على شيء، فإنه يعكس نموًّا شعبيًا واضحًا في استخدام العملات الرقمية بين الأفراد العراقيين، رغم غياب الغطاء القانوني أو التنظيمي الذي يحكم هذا النوع من التعاملات.
ففي الوقت الذي تواصل فيه الجهات الرسمية، وعلى رأسها البنك المركزي العراقي، منع التداول بالعملات المشفرة واعتبارها وسيلة محتملة لغسيل الأموال والاحتيال الإلكتروني، تتوسع قاعدة المستخدمين من الشباب العراقي، مدفوعة بإغراءات الربح السريع وسهولة الوصول إلى المنصات الرقمية العالمية.
وبين هذا التناقض بين الانتشار الشعبي والمنع الرسمي، يبرز تساؤل ملح: هل العراق بحاجة إلى إعادة النظر في سياساته تجاه العملات المشفّرة؟ أم أن الاستمرار في الحظر هو الخيار الأنسب في ظل هشاشة البنية القانونية والرقابية في البلاد؟
ومؤخراً، كشف مؤشر "التبني العالمي" للعملات المشفرة، عن حلول العراق بمرتبة متقدمة نسبيا حيث جاء ضمن الثلث الأول لبلدان العالم المستخدمة للعملات المشفرة.
وجاءت النسخة السادسة من المؤشر العالمي لتبني العملات المشفرة، لتكشف عن حجم انتشار استخدام العملات المشفرة الالكترونية على مستوى القاعدة الشعبية، والذي يتكون من 4 مؤشرات فرعية ويصنف 151 دولة، ويمنح الرقم النهائي بين 1 و0، وكلما اقتربت نقاط الدولة من الرقم 1
كانت الأعلى تصنيفا بتبني العملات المشفرة.
وجاء العراق بالمرتبة 44 عالميا من أصل 151 دولة، ما يجعله ضمن الثلث الأول عالميا باستخدام العملات المشفرة، وحقق نقاط بلغت 0.05، متفوقا على السعودية وعمان والكويت والامارات، وقطر، والبحرين، لكن تركيا واليمن والأردن تفوقت على العراق.
وتشير البيانات الى ان منطقة اسيا والمحيط الهادي كانت أسرع المناطق نموًا في نشاط العملات المشفرة على سلاسل التوريد، محققةً زيادةً في القيمة المُستلمة بنسبة 69% على أساس سنوي، خلال الـ12 شهرا الأخيرة، وارتفع إجمالي حجم معاملات العملات المشفرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من 1.4 تريليون دولار أمريكي إلى 2.36 تريليون دولار أمريكي.
وبهذا الصدد، يؤكد المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح أن العملات المشفرة سلاح ذو حدين، مشددا على منعها بشكل مطلق في العراق لأسباب عديدة.
ويقول صالح إن العملات المشفرة ممنوعة في العراق ولا يمكن أن تدخل في هكذا "مؤامرات" من الأموال المجهولة المصدر وعدم وجود مركزية لها، ونتيجة لخصوصيتها وإمكانية استخدامها في غسيل الأموال.
ويضيف خلال حديثه لـ"الاقتصاد نيوز"، أن العملات المشفرة قد تكون وسيلة ضامنة في بعض الأحيان وتحمي من تقلبات التضخم ومخاطر العملات، لكنه أكد أن الطبيعة اللامركزية للعملات المشفرة هي الشيء المخيف لكونها عملات غير مسيطر عليها وصدرت في وقت "الليبرالية المفرطة" وفق قوله.
وفيما يخص استخدام هذه العملات في غسيل الأموال، يقول صالح إنها تعد واحدة من وسائل غسل الأموال، مشيرا إلى أن خصوصيتها العالية جدا ولا مركزيتها تسببان غسيل أموال، وفي الوقت نفسه لا توجد سيطرة لبنك مركزي أو سلطة نقدية عليها.
ويؤكّد أن المنظمات الخطرة تستخدمها في غسل الأموال، معتبرا أنها "مخيفة" في كل الأحوال، على الرغم من أن بعض الدول بدأت تشريع بعض جوانبها القانونية، لكنه يعتقد أنها ما زالت في طور الممنوعات.
بدوره، البنك المركزي العراقي أوضح موقفه من هذا الأمر، من خلال الإشارة إلى أن التداول بهذه العملات يعد جريمة في حد ذاته، ويخضع لأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وقوانين أخرى، كما أن التعامل بالعملات الرقمية الافتراضية ينطوي على مخاطر عدة، لا سيما ما يتعلق بالقرصنة الإلكترونية والاحتيال.
بيتكوين، وفق البنك المركزي، عملة إلكترونية افتراضية تتداول عبر الإنترنت فقط، من دون وجود مادي لها، وتستخدم للشراء عبر الإنترنت، وتدعم الدفع باستخدام بطاقات بيتكوين، أو قد تحول إلى العملات التقليدية في بعض الأحيان.
وأعلن البنك المركزي العراقي، في وقت سابق، أنه لا يمنح رخصة لشركات التداول بـالأسهم والمعادن والعملات المشفرة، وأنه ماض في اتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق الشركات الوهمية، محذرا من وجود شركات وهمية للتداول الإلكتروني بالأسهم تدَّعي أنها مرخصة من قبل البنك.
بدوره، حذّر الخبير في الشأن الاقتصادي صفوان قصي من مخاطر تعامل بعض الشباب العراقيين مع العملات الرقمية عبر مواقع غير رسمية، مشيرًا إلى أن البنك المركزي العراقي لا يسمح بالتعامل بهذه العملات حاليًا، لعدم وجود غطاء قانوني أو تنظيمي يُجيز ذلك.
وقال قصي خلال حديثه لـ"الاقتصاد نيوز" إن "هناك شريحة من الشباب العراقي تلجأ إلى منصات إلكترونية لشراء العملات الرقمية بعيدًا عن الموافقات الأصولية، في محاولة للاستفادة من الأرباح التي توفرها هذه السوق". وأضاف أن "زيادة التداول لا تعني بالضرورة وجود غطاء قانوني لهذه العمليات، ما يعرض المشاركين فيها إلى مخاطر قانونية ومالية كبيرة".
وأكد أن غياب التشريعات المنظمة يُفسح المجال لاستخدام هذه العملات كأحد نوافذ غسيل الأموال، موضحًا أن "بعض الجهات قد تقوم بشراء العملات الرقمية باستخدام الدينار العراقي من مصادر غير شرعية، ومن ثم تحويلها إلى عملات معترف بها دوليًا، ما يُسهّل تمرير الأموال غير القانونية".
ودعا قصي إلى ضرورة سن قانون ينظم تداول العملات الرقمية، بحيث تكون خاضعة لرقابة البنك المركزي العراقي أو المصارف التي تمتلك الضمانات الكافية، محذرًا من أي تداول خارج هذا الإطار إلى حين وجود تشريعات واضحة".
واختتم بالقول: "الضبط القانوني ضروري لضمان معرفة مصدر الأموال وهوية الجهة المُصدِرة للعملة، ومنع أي تلاعب في جنس الأموال داخل السوق العراقي".
تجارب عالمية في تنظيم العملات الرقمية
على الصعيد الدولي، تتباين المقاربات التنظيمية تجاه العملات الرقمية؛ فقد سمحت دول مثل الولايات المتحدة وكندا وسويسرا والإمارات بتداولها وفق أطر تنظيمية محددة. بينما اتخذت جزر مارشال خطوة جريئة بجعل إحدى العملات الرقمية عملة رسمية بديلة للدولار. كما أطلقت الإمارات استراتيجية "بلوكتشاين" في عام 2021، وتحديدًا هيئة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA) في عام 2023، مما يعكس حرصها على تطبيق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
كما شهدت الأسواق الأمريكية تطورات مهمة مع الموافقة على صناديق تداول البيتكوين (Spot Bitcoin ETFs) في يناير 2024، مما جذب تدفقات استثمارية ضخمة وصلت إلى حوالي 30 مليار دولار، كما أن شركات كبرى مثل MicroStrategy احتفظت بمخزون ضخم من البيتكوين (على سبيل المثال، 226,331 وحدة حتى يوليو 2024). رغم هذه التجارب العالمية، لا تزال العملات الرقمية في العراق تُعتبر تهديدًا، حيث يصفها مستشار البنك المركزي بأنها "احتيال هرمي" غير مستقر.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام