فجوة السياسة الكلية بين القطاعين المصرفي والاقتصادي

الاقتصاد نيوز - بغداد

مما لاشك فيه ان السياسة الكلية بين القطاعين المصرفي والاقتصادي في العراق تعاني من ضعف في توحيد الجهد وبلوغ الأهداف، اذ يسلك القطاعان مسارين منفصلين، بشكل معقد، ويعمقان فجوة بينهما تعكس اختلافات جوهرية في الرؤية والأولويات والآليات. ويظهر للمتتبع ان العلاقة بين القطاعين المذكورين ليست مجرد مسألة فنية أو تقنية، بل هي في الأساس صراع يعكس تضارب المصالح، وتعارض الأولويات بين المؤسسات. لذا تعد الفجوة السياسية هذه من أعمق العوائق أمام تحقيق إصلاح حقيقي متكامل.

وإذ يمارس القطاع المصرفي دوره الرئيس وسيطا ماليا للأنشطة الاقتصادية الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والنقل وغيرها من القطاعات الحيوية، فهو ليس مصدرا لتوليد القيم الاقتصادية من سلع وخدمات، انما أداة لجذب المدخرين والمستثمرين. ومنه يفهم بان سياسة الإصلاح المصرفي تشتمل على تحسين كفاءة التخصيص الائتماني أو خفض الديون المتعثرة او رفع نسبة الإقراض للمشاريع مثلا، ليضمن سلامة وكفاءة وصول التمويل إلى قطاعات منتجة مثل الصناعة أو التكنولوجيا، فمهمة القطاع المصرفي تنتهي حيث يبدأ نشاط القطاع الاقتصادي بالاستثمار والتنمية.

لذا امكن تشبيه ضعف العلاقة بين السياستين المصرفية والاقتصادية في العراق بـ"كعب أخيل"، اذ يعد هذا الارتباط الهش نقطة الضعف القاتلة التي تهدد نمو واستقرار الاقتصاد رغم الموارد الهائلة التي يمتلكها البلد. فالاقتصاد يبدو قويا باحتياطيات نفطية ضخمة تصل إلى 145 مليار برميل، لكن النظامين المصرفي والاقتصادي غير قادرين على تحويل هذه الثروة إلى تنمية مستدامة.

ومن دراسة نماذج الفشل في سياسات العديد من الدول، نجد ان الفجوة المذكورة تتضح في تشوه نمو النشاط المصرفي  حيث الكثير من القروض تتركز في قطاعات غير منتجة كالعقارات، الاستهلاك، القطاع العام، مما يوسع الفجوة بين التمويل والنمو الاقتصادي الحقيقي.  فقد يكون النظام المصرفي متطورًا يتبنى التكنولوجيا المالية أو معايير بازل، لكن في المقابل يعاني الاقتصاد من ضعف الإنتاج غير النفطي وهشاشة البناء المتمثلة في هيمنة القطاع غير الرسمي ونمو بيئة أعمال غير جاذبة للاستثمار، والنتيجة سيولة مالية عالية دون نمو اقتصادي متوازن.

فضلا عن تضارب السياستين النقدية والمالية فنجد ان البنوك المركزية تستهدف الاستقرار المالي عبر استهداف التضخم واستهداف استقرار سعر الصرف. بينما تركز الحكومات على النمو الاقتصادي كزيادة الإنفاق، التشغيل، دعم السلع الأساسية. هذا التضارب يؤدي إلى سيولة مصرفية مرتفعة مع تباطؤ اقتصادي كما في (مصر مثالًا في بعض الفترات).وتوسع الائتمان المصرفي في غياب مشروعات استثمارية حقيقية كما حدث في( أزمة الديون في لبنان).

تعاود فجوة السياسة الاقتصادية الظهور حيث الفصل بين الإشراف المصرفي والسياسة الاقتصادية اذ تراقب البنوك المركزية صحة القطاع المصرفي ، لكنها لا تتحكم في توجيه الائتمان نحو القطاعات الإنتاجية. ماعدا الاقتصادات الناشئة، التي قد تنفرد في تدخل الحكومات لتوجيه القروض والتمويل نحو المشروعات الصغيرة ، ما يعرقل النمو الاقتصادي كونها لا تمتلك نظم معلومات متكاملة تربط بين الأداء المصرفي والأداء الاقتصادي. فقد تمنح البنوك قروضًا كبيرة للعقارات، لكن لا يوجد تحليل لـتأثير ذلك على التشوهات الاقتصادية مثل فقاعات العقار على حساب القطاع الصناعي. فيظهر للعيان خدمات مصرفية مقابل قطاعات تقليدية من الزراعة، والصناعة لا تزال تعتمد على أنظمة تقليدية. ما يخلق اقتصادًا ماليًا سريعًا مقابل اقتصاد حقيقي بطيء.

في المقابل هنالك تجارب ناجحة كثيرة في التوفيق بين النظامين المصرفي والاقتصادي المنتج  لامجال لذكرها يمكن ان نستوحي منها ونكتفي بسنغافورا التي غيرت مسار التمويل غير المنتج إلى منتج عبر منع البنوك من إقراض القطاع العقاري بأكثر من 40% من محفظتها عام 1970. ثم توجيه 60% من الائتمان للتصنيع والتكنولوجيا عبر هيئة التنمية الاقتصادية (EDB) في سنغافورة  وهي مؤسسة حكومية تهدف إلى جذب الاستثمارات وتعزيز النمو الاقتصادي في سنغافورة. تقدم حوافز للشركات العالمية لإنشاء مقارها في البلاد، مع تركيز على القطاعات التكنولوجية والمالية. والنتيجة بعد خطة طويلة الاجل استغرقت ثلاثة عقود من الزمن اصبحت سنغافورة من أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم.

وبالعودة الى المشهد في العراق فهو يعاني من الاختلال الهيكلي واعتماد الريع النفطي بنسبة  تبلغ حوالي 95% من تمويل بنود الموازنة العامة، ما يجعل الاقتصاد عرضة للتضخم وتقلبات الأسعار. ومنه انحسار نمو القطاعات المنتجة، ثم ظهور قطاع مصرفي يوجه نشاطه التمويلي إلى قطاعات غير منتجة كالمشاريع العقارية الفاخرة من دون طلب سوقي يذكر، وتمويل استيراد سلع كمالية بدلاً من تنمية وتعزيز الصناعة المحلية، واعتماد البنوك على الإيداعات الحكومية من عائدات النفط بدلاً من المدخرات الحقيقية، وغياب السياسات التوجيهية نحو تحفيز التمويل للقطاعات الإنتاجية والتنموية الخاصة.

اثر ذلك اصبح العراق مستوردا صافيا في قطاع التجارة الخارجية، ما افقده فرص تنمية تخصيصية وتنافسية سوقه المالي، ما اضعف قدرة القطاع المصرفي على استخدام الأدوات المالية والنقدية ولاسيما سعر الفائدة والسندات والأوراق المالية في بلوغ التوازن الكلي، وخلق اختلالا كليا بعيدا عن سعر الفائدة التوازني مما حدَ من قدرة سعر الفائدة محفزاً لراس المال وكابحاً للتضخم، فزاد من الهشاشة المالية وعمق من التبعية للريع.

لذا امكن تشخيص محاور مهمة لتقليص الفجوة بين الإصلاحين المصرفي والاقتصادي من طريق الآتي:

تنويع الاقتصاد عبر التمويل التنموي: فتعزيز الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي عبر سياسة اقتصادية توسعية تحفيزية للاستثمارات الزراعية والصناعية كفيل بخلق التوازن التقليدي للاقتصادين الحقيقي والنقدي من طريق الأدوات النقدية كسعر الفائدة والسندات، تدريجياً ، على ضوء سياسة تجارية تستهدف تخفيض الاستيراد.

إنشاء بنك عراقي للتمويل التنموي الذكي: لتمويل المشروعات الإنتاجية طبقا للخارطة الاستثمارية التي تدعم تنويع الاقتصاد العراقي.

بناء صندوق سيادي لتعزيز الاستدامة المالية والاقتصادية: من خلال تحويل جزء من عائدات النفط إلى استثمارات في قطاعات منتجة كالطاقة البديلة والتكنولوجيا.

الحد من هيمنة النظام المصرفي غير الرسمي على جزء كبير من المعاملات المالية، عبر سلم من الحوافز والكوابح لتنظيم عمل النظام  المصرفي غير الرسمي لتعزيز قدرة السياستين المالية و النقدية وتعزيز التنسيق بينهما.

شفافية القروض الكبرى من خلال إلزام البنوك بالإفصاح عن بيانات المقترضين الكبار. ومنح القروض بناءً على الجدارة الائتمانية.

شفافية الموازنة العامة عبر نشر جميع العقود والمنح والقروض الكبرى على منصة إلكترونية.

تعزيز البنية التحتية المالية تقويض التخلف التكنولوجي وتعزيز الشمول المالي عبر تحديث أنظمة المدفوعات وزيادة الفروع المصرفية وتنمية القاعدة الناشئة من شركات التكنولوجيا المالية عبر سياسات تحفيزية جاذبة.

بناء استراتيجية لإعادة توجيه الائتمان نحو الإنتاج لتحقيق تنويع اقتصادي خلال .عبر التنسيق بين السياسات النقدية والمالية والتجارية والصناعية والزراعية والسياسات الكلية الأخرى.

إنشاء صندوق سيادي تكنولوجي باستثمار 10% من عائدات النفط.

لذا فقد آن الأوان لتوحيد الجهود والتنسيق بين الأهداف لاتخاذ الخطوات الكفيلة بتقليص فجوة السياسة الكلية للقطاعين المصرفي والاقتصادي . ان التجربة التاريخية تخبرنا بان الدول التي تهدر أزماتها تزول، والتي تستثمر فيها  تنمو وتزدهر.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام


مشاهدات 391
أضيف 2025/07/05 - 4:25 PM