د.هيثم حميد مطلك المنصور
يشهد الاقتصاد العراقي فجوة بين توجهات الحكومة نحو تعزيز النمو من جانب، والتحديات الهيكلية التي تعيق النمو والاستقرار من الجانب الآخر. فرغم امتلاك العراق لثروة نفطية هائلة كونه يحتل المرتبة الثالثة في احتياطي النفط العالمي، إلا أن الاعتماد شبه الكلي على عائدات تصدير النفط الخام التي تصل الى أكثر من 90% من إيرادات الموازنة العامة، يجعله عرضة لتقلبات السوق العالمية ويعيق تنويع قاعدته الإنتاجية مما يحد من مرونته في مواجهة الصدمات الخارجية ويحد من استجابة الاقتصاد الوطني لمتطلبات الإصلاح .
ويلحظ النشاط الكلي فان الاقتصاد العراقي يشهد تطويرًا في البنية التحتية لإنتاج النفط كالمشاريع المشتركة مع شركات عالمية في حقل مجنون وغرب القرنة مثلا. ومنه ارتفاع الإنتاج الكلي إلى نحو 3.5 مليون برميل يوميًا منذ نهاية عام 2023، مع التخطيط للوصول إلى 5 ملايين برميل في السنين القادمة . فضلا عن التحسن في إدارة الموارد بعد إقرار قانون النفط والغاز غير المُطبق كاملا. فيما نلمس توسعا للاستثمار في مشاريع إعادة إعمار مدن مثل الموصل والبصرة بدعم من الاستثمار الأجنبي خاصة الخليجي منه، وتطوير ميناء الفاو الكبير وهو المشروع الاستراتيجي لتنشيط التجارة الخارجية.
ونلمس في المقابل توجها محدودا نحو التنويع في قطاعات محدودة تقتصرعلى خطط حكومية محدودة لتنمية الزراعة والصناعة مثل دعم المنتج المحلي في قطاع الأغذية، وإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتنمية 2020-2030 التي شهدت ضعفا في التنفيذ بحسب تقييم البنك الدولي. وعلى صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية يلاحظ تعزيز التعامل باليوان الصيني بدل الدولار في تجارة النفط مع الصين. وابرام اتفاقيات مع دول الجوار مثل الأردن ومصر والمملكة العربية السعودية لإنشاء مناطق صناعية مشتركة.
لكن من أوضح التحديات التي تواجه نمو الاقتصاد والإصلاح الاقتصادي بشكل عام هي آفة الفساد المالي والإداري اذ احتل العراق مراكز متأخرة في مؤشر الشفافية العالمية (المركز 154 من 180). اذ يتآكل ما نسبته 30% من الموازنة سنويًا بسبب الفساد طبقا لتقديرات البنك الدولي. فيما يعاني مؤشر التشغيل من ارتفاع في مستويات البطالة والبطالة المقنعة فمعدل البطالة يفوق 15%، ويصل إلى 30% بين الشباب، بسبب تزايد مستويات الانفاق العام وارتفاع اسهامه في نسبة التوظف الكلي وتفشي البطالة المقنعة ضمن أكثر من 4 ملايين موظف .فضلا عن ارتفاع مؤشر التضخم نحو 7% في نهاية عام 2024.
وبعد ان شهدت أسعار النفط تراجعا بفعل الطلب العالمي الناجم عن تباطؤ النمو الصيني وارتفاع الفائدة الأمريكية،ما أثرعلى إيرادات الموازنة، وزاد من عجز موازنة 2024 التي أقرت بـ 198 تريليون دينار (نحو 152 مليار دولار)، مع عجز متوقع 48 تريليون دينار (24%)، مما يزيد من الاعتماد على الاقتراض الداخلي .الذي وصل معه الدين العام الداخلي إلى 80 تريليون دينار نحو 55 مليار دولار. وبسبب معدل التضخم الذي ارتفع 2024 إلى 7.5% مقارنة بـ 6% في 2023 يلاحظ انخفاض قيمة الدينار أمام الدولار مع زيادة الطلب على الواردات لانعدام مرونة قاعدة الإنتاج المحلي.لذا فقد كانت إجراءات البنك المركزي لرفع سعر الفائدة إلى 7.5%، فضلًا عن رفع نسبة الاحتياطي القانوني من 15 - 18% وتشديد الرقابة على تحويلات الدولار لمكافحة التهريب وغسل الأموال. وليس ببعيد نجد ان الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي تشهد هي الأخرى انخفاضا واضحا بحسب احصائيات البنك ذاته، اذ بلغ الانخفاض حدود 7.5 مليار دولار نتيجة إجراءات التعقيم التعويضي في انخفاض المعروض الدولاري في السوق الموازي مما يشكل تهديدا للدرع الحكومي الواقي من التضخم ضمن الاجل الطويل.
ومع وجود التشوهات الحقيقية في الاقتصاد العراقي التي تمس هيكل الطلب الكلي والانفاق وبنية الاستثماروماله من تداعيات خطيرة على قطاع الاعمال وفي ضوء المعالجات الحكومية المحدودة والمتوقع من استمرار انخفاض أسعار النفط العالمية، فان من الخطوات المهمة لانجاح عملية الإصلاح الاقتصادي عبر التأكيد على الحد من الريعية من خلال الآتي:
بناء استراتيجية للاستثمار الأجنبي في قطاعات منتجة ومحددة مع خطة واضحة الأهداف والأدوات للاستثمار وللتنفيذ والرقابة ولمكافحة الفساد. منها قطاع النفط والصناعات البتروكيمياوية والصناعات الاستخراجية وصناعات التعدين .
تعزيز خطوات الاستراتيجية الاستثمارية عبر اصدار حزمة من القوانين الجاذبة للاستثمار الأجنبي والمضي بإصلاحات حقيقية لرفع المستوى المتوقع من الكفاءة الحدية لراس المال وانعكاسها المباشر في تحفيز حركة واتجاهات راس المال الخاص وزيادة انتاجيته في القطاعات المذكورة في النقطة الاولى.
توجيهوفورات استثمارات العائد النفطي في البنية التحتية والتربية والتعليم والصحة والإسكان والصناعة والزراعة. وتوسيع نطاق الاستثمار المشتق.
ترشيد سياسة الانفاق العام واتخاذ إجراءات وتدابير للضبط المالي والاستدامة المالية للمورد الاقتصادي الناضب، والتنسيق مع السياسة النقدية لإصلاح القطاع المصرفي وتسهيل تمويل الاستثمارات مصرفيا لبلوغ الاستقرار والنمو.
هذه الاشارات من شانها ان تحقق اصلاحا اقتصاديا في السوق المالي والحقيقي ومن ثم زيادة في النمو الاقتصادي عبرالتعويض المالي من عوائد الاستثمار وتخفيض عجز الموازنة العامة والرفع من قدرة الحكومة على توسيع الناتج المحلي غير النفطي وامتصاص الصدمات الخارجية ومن ثم ارتفاع استدامة الدين العام الداخلي وبلوغ تضخم متدن ومستقر. والا فان الاقتصاد العراقي سيصل مفترق طرق، إما الانطلاق نحو التنويع والاستقرار، أو الاستمرار في التبعية للنفط مع مخاطر الريع وعدم الاستقرار.