النفط.. قاتِلُ العراق الصامت

الاقتصاد نيوز — بغداد

تضم البصرة، ثاني أكبر مدينة في العراق والواقعة أقصى جنوبه، حوالي 2.9 مليون عراقي، إلا أن هذا الرقم الرسمي يعتبر مُخلاً إذا ما قورن بعدد الساكنين الفعلي للمدينة حيث إن العديد من عمال المناطق الريفية المجاورة انتقلوا إلى المدينة بحثاً عن وظائف في قطاع الصناعة النفطية، مما يصعب عملية التحقق من الأعداد الحقيقية.

وما ما يزال معدل البطالة مرتفعاً، رغم وجود شركات النفط الكبرى في البصرة، وهذا ما يدفع العراقيون للبحث عن فرص عمل في قطاعات أخرى. وأدى تجاهل تحسين الخدمات الصحية والتعليمية والعامة إلى اندلاع "حركة تشرين" في عام 2019، بحسب تقرير مترجم عن موقع "The New Region".

ويمثل تلوث النفط في البصرة تهديداً كبيراً للسكان حيث تؤدي عمليات استخراج وتكرير النفط إلى انبعاثات مرتفعة تسهم في زيادة معدلات السرطان.

"السرطان يمشي معنا"

زارت "The New Region" قرية نهران عمر، والتي تبعد 15 كم شمال البصرة، حيث بالإمكان لمس تأثير الصناعة النفطية على السكان بشكل وثيق إذ يدفع العراقيون ثمن عيشهم بالقرب من حقول النفط. ومن بين هؤلاء، رغد كريم، ذو الـ 44 ربيعاً، الذي يكافح مرض سرطان القولون.

يقف رغد كريم متحدياً، بينما تخنق أعمدةُ الدخان الأسود السماءَ من خلفه، وهو تذكير صارخ بالتهديد الصامت الذي يطارد قريته منذ سنوات، قائلاً إن "هذا (في إشارة إلى الدخان) هو ما نتنفس منذ سنوات. إنها أزمة قد دمرت السكان، سرطانات من جميع الأنواع وأمراض تنتزع أنفاسك. والآن، لقد أصابتني أنا كذلك".

مضيفاً "في 2007، توفي أخي بالسرطان، واليوم، أنا أكافح المرض، مما يجعل حياتي حرجة للغاية".

الصعوبات التي يواجهها رغد كريم تتجاوز مصيبة مرضه فحسب، فعندما تم تشخصيه بمرض سرطان القولون تغيرت حياته وانقلبت رأساً على عقب إذ أصبح يكافح لتحمل تكاليف الرعاية الطبية والعلاج الكيميائي الباهظ، والذي سافر إلى لبنان من أجله لأنه لم يكن متاحاً في بلده، فبدون دعم من مؤسسة حكومية أو خيرية أُجبر رغد كريم على تمويل علاجه بنفسه.

وتمكن رغد كريم، بفضل الديون ويد عون الأصدقاء، من إجراء عملية جراحية استطاع بها أن يزيل الورم. ومع ذلك، فإن احتمالية عودة السرطان ما تزال مرتفعةً فهو بحاجة إلى أدوية واختبارات متابعة مستمرة لضمان التعافي الكامل من المرض، ولكن تكلفة الجراحة قد استنزفت موارده مما وضعه وعائلته تحت ضغط وتوتر كبير.

ويضيف كريم، إن "العديد من الناس الذين أعرفهم في قرية نهران عمر يخشون زيارة الأطباء خوفاً من إخبارهم بأنهم مصابون بالسرطان. وهذه معركة نفسية يواجهها الجميع هنا يومياً. يمكنني القول إن السرطان في حيّنا مثل الأنفلونزا، منتشر بشكل صادم".

وفقًا لموقع World Meter، يمتلك العراق حوالي 143 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد حتى عام 2016، مما يجعله في المرتبة الخامسة عالمياً، وهذا يمثل حوالي 8.7% من إجمالي احتياطيات النفط العالمية.

الخطر من حرق النفط ليس محدوداً بمنطقة نهران عمر فحسب، إذ إن التلوث يؤثر أيضاً على مناطق أخرى حول البصرة، وأهمها الرميلة، التي تضم أحد أكبر حقول النفط في العالم.

ما لا يعوضه المال.. فقدان الأب

في أبريل من العام الماضي، فقد علي حسين جلود، شاب من البصرة، معركته مع سرطان اللوكيميا عن عمر يناهز 21 ربيعاً. تعتقد عائلة علي، التي تعيش بالقرب من حقل نفطي كبير تابع لشركة BP البريطانية في الرميلة، أن الاحتراق المستمر للغاز ساهم في إصابته بالمرض ووفاته في النهاية.

تم تشخيص علي بالمرض عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وشمل علاجه عدة جولات من العلاج الكيميائي وزرع نخاع العظم والعلاج الإشعاعي داخل وخارج العراق.

كان علي ماهراً في كرة القدم وحَلُمَ بأن يصبح لاعباً محترفاً، كما أنه كان يمتلك متجراً صغيراً لبيع الهواتف المحمولة وملحقاتها في قريته.

ويهدد والد علي، السيد حسين جلود، بمقاضاة شركة BP بعد وفاة ابنه.

يقول جلود، وهو في الخمسينات من عمره، لـ "The New Region"، إن "فقدان ابني علي لا يمكن تعويضه. لا يمكن للمال أن يعيده إلي، لكن علاجه كلَّفَ مبلغاً كبيراً. بعت مجوهرات زوجتي واستدنت الأموال بكثرة حتى أني اضطررت لبيع الأثاث لدفع تكاليف العلاج داخل العراق وخارجه. أنفقت أكثر من 180 مليون دينار عراقي (حوالي 137,000 دولار أمريكي) على علاج علي، لكن للأسف، لم أتمكن من إنقاذه"

ويضيف جلود، أن "العشرات، وربما حتى المئات، في منطقة الرميلة ماتوا أو أصيبوا بالمرض نتيجة لانبعاثات الغاز السامة."

إن الاحتراق الغازي هو حرق الغاز الزائد، ويعتبر ممارسة شائعة أثناء عملية استخراج النفط. هذه العملية تطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون والميثان والسخام الأسود، مما يشكل أخطار على الصحة والبيئة.

يقول جلود، إن كلاً من "شركة BP أو الحكومة لم تتواصلا معي بعد أن تم الكشف عن هذه المشكلة في وثائقي BBC"

يعتبر حقل الرميلة النفطي، والذي يقع في جنوب العراق على بعد 50 كم غرب البصرة والذي يستخرج يومياً 1.5 مليون برميل وممثلاً ثلث إمدادات النفط في البلاد وثالث أكثر الحقول إنتاجية في العالم، شريان الحياة لاقتصاد العراق.

تعرضت عائلة علي وسكان آخرون في الرميلة للغاز المحترق على بعد أقل من 2000 متر من منازلهم. وهذا يتعارض بشكل صارخ مع القانون العراقي، الذي ينص على أن تكون المناطق السكنية ومواقع الاحتراق على الأقل على بعد 10 كم.

يضيف جلود بأن "عائلتي تعيش في الرميلة، حيث كان هناك إنتاج نفط قليل قبل وصول شركة BP. لكن منذ أن بدأت هذه الشركة في العمل، زاد الإنتاج بشكل كبير. وللأسف، تزامن هذا التطور مع زيادة في انبعاثات الغاز السامة، التي يُعتقد أنها مرتبطة بالعديد من الأمراض التي تصيب المنطقة، بما في ذلك السرطان الذي قتل ابني".

"كل صباح في طريقي إلى الصلاة، أستطيع شمَّ الغاز القاتل وأرى سحباً كثيفة من الدخان الأسود في السماء. عائلتي وصحتي في خطر دائم. فقدتُ علياً وأخشى على بقية أفراد عائلتي من ذات المصير".

وأكمل جلود "أنا أقترح بناء مستشفى متخصص لعلاج السرطان في الرميلة ونقل السكان إلى مناطق أكثر أماناً. كما يجب على الجميع الخضوع للفحص لضمان صحتهم. فمنذ عدة أيام، تم تشخصي جار لي، كبير بالعمر، بمرض السرطان. ونتيجةً لذلك، يجب اتخاذ إجراءات فورية. فنحن نحتاج إلى علاج المرضى وتعويض الأشخاص، سواء في الرميلة أو في المناطق الأخرى المنتجة للنفط، الذين فقدوا أحبائهم أو الذين يعانون من السرطان بأنفسهم".

فريق الـ BBC.. متجاوزاً التلوث ودرجة الحرارة الحارقة

تحمل طاقم الـ BBC الحرارة الحارقة والمواد الكيميائية الخطرة لتصوير الفيلم الوثائقي "تحت السماء المسمومة/ Under Poisoned Skies"، الذي أظهر ممارسة شركات النفط الأجنبية، لا سيما شركة BP البريطانية، حرق الغاز الزائد بالقرب من المناطق السكنية.

ووفقاً للفيلم، تطلق عملية استخراج النفط العديد من المواد المسرطنة، مما يرتبط بزيادة مثيرة للقلق في حالات الإصابة بسرطان اللوكيميا، لاسيما بين الشباب.

بعد تحقيق الـ BBC، تم اكتشاف تركيزات عالية خطيرة من البنزين، والمعروف بأنه مادة مسرطنة، في الهواء وتتجاوز الحدود المقبولة بكثير. ومن اللافت للنظر أن اختبارات البول للأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع الحرق أظهرت أن 70% منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين، وهو من المواد الكيميائية المسرطنة.

يشارك أوين بينيل، منتج فيلم "تحت السماء المسمومة"، نتائج الفيلم مع "The New Region"، قائلاً إن "الفيلم كشف دور شركات النفط الدولية بما في ذلك BP في حرق الغاز السام على بعد مئات الأمتار فقط من المناطق السكنية في العراق. صحافتنا تطرح أسئلة صعبة وتحمل كل من الشركات والحكومة العراقية المسؤولية عن الحرق العشوائي للغاز، الذي له عواقب بيئية وصحية خطيرة."

وأوضح بينيل، أن "الشركات النفطية الدولية والحكومة العراقية لا تنشر بيانات عن مستويات المواد الكيميائية السامة المنبعثة من حرق الغاز. لذلك، أجرينا اختبارات ووجدنا أن هناك مستويات عالية من المواد الكيميائية المسرطنة في الهواء وفي عينات بول الأطفال الذين يعيشون بالقرب."

ويسلط فيلم الـ BBC الضوء على قضية بيئية حاسمة: حرق الغاز ليس فقط غير ضروري ومهدور، ولكنه أيضاً يمكن منعه بالاستثمار المناسب من كل من الشركات والحكومات.

وأكمل قائلاً "تم إبلاغنا عن أن عائلة علي بدأت قضية قانونية ضد BP بشأن حرق الغاز في العراق، وأنها تستخدم بعض الأدلة المقدمة في الفيلم كأساس لهذه القضية".

"كان من الصعب تصوير المجتمعات القريبة من مواقع الحرق، حيث تعرضنا بشدة للتلوث. وفي إحدى المناسبات، هبَّت الرياح جالبةً دخان الغاز المحترق باتجاهنا. جهاز مراقبة التلوث المحمول الخاص بنا أطلق تحذيراً من مستويات البنزين الخطرة، ولكن كان من الواضح من الرائحة في الهواء أن التنفس لم يعد آمناً. لحسن الحظ بالنسبة لنا، تمكنا من مغادرة المنطقة، ولكن العائلات التي تعيش هناك مجبرةٌ على استنشاق هذا الهواء السام يوماً بعد يوم".

ويكمل بينيل القول بأن "رحلتنا الأولى لتصوير الفيلم إلى البصرة كانت في أغسطس، عندما تجاوزت درجات الحرارة بانتظام 50 درجة. وكان من الصعب جداً عليَّ وعلى المخرجة جيس كيلي التصوير في ظل درجات الحرارة الشديدة هذه، حيث توقفت الكاميرات عن العمل بشكل متكرر بسبب الحرارة المرتفعة. وهذا أظهر لنا التحديات التي يواجهها العراق ككل، كواحدة من أكثر الدول عرضةً للتأثر بالتغير المناخي في العالم".

مضيفاً، أنه "في جميع المناطق التي أجرينا فيها مراقبة التلوث، وجدنا تركيزات عالية من البنزين المسرطن، تصل إلى 9.7 ميكروغرام لكل متر مكعب. ومن الجدير بالذكر أن هذا هو متوسط لمدة أسبوعين، لذا في بعض الأيام قد تكون مستويات البنزين أعلى بكثير".

أكد البروفيسور فرانك كيلي، الخبير العالمي في تلوث الهواء، لفريق الـ BBC، أن منظمة الصحة العالمية تعتبر مستوى البنزين "الآمن" صفر، بينما النتائج التي تم الحصول عليها من العراق وُصفت بأنها "مقلقة" من حيث تأثيرها على صحة الناس.

آثار كيميائية موجودة في البول

يقول بينيل، إنه "بالنسبة لعينات البول، نظرنا في مادة كيميائية مسرطنة أخرى، وهي النفثالين. النتائج أظهرت أن 70% من الأطفال الذين أخذنا عينات منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين في البول، مما يشير إلى فرصة أكبر لحدوث تشوهات يمكن أن تؤدي إلى السرطان".

وأكمل قائلاً، "قصة علي أصبحت جزءاً مهماً من فيلمنا حيث إن مذكراته المصورة أعطتنا نظرة حميمة على الحياة في الرميلة، وهي بلدة داخل حدود أكبر حقل نفطي في العراق والممنوعة من دخول الصحفيين إليها".

تواصلت "The New Region" مع وسن جزراوي، شريك في شركة Hausfeld & Co. LLP، محامو السيد جلود، الذين قالوا إن "تأثير حرق الغاز على البيئة وعلى صحة المجتمعات المحلية في العراق صادم. يجب أن تكون هذه الدعوى ضد BP بمثابة نداء استيقاظ: يجب على هذه الشركات الوفاء بالتزاماتها، تعويض من عانى، واتخاذ خطوات جادة للحد من الأضرار المستمرة والمستقبلية الناتجة عن عملياتها".

تواصلت "The New Region" مع BP عبر البريد الإلكتروني الرسمي للحصول على رد، لكن الأسئلة بقيت دون إجابة حتى وقت النشر.

رغم ثروة العراق وموارده الوفيرة، يواجه نظامه الصحي تحديات كبيرة تتمثل بنقص الأدوية والرعاية الصحية الأساسية في القطاع الصحي الحكومي، والتي دفعت العديد من العراقيين للبحث عن العلاج في الخارج. إن الوضع سيء بشكل خاص نظراً لمعدلات البطالة العالية والصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الملايين من العراقيين.


مشاهدات 261
أضيف 2024/07/02 - 3:50 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 11285 الشهر 52939 الكلي 9052957
الوقت الآن
الخميس 2024/7/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير