التنقيب عن الحرب

 

في خضم متابعتنا للحرب الروسية على أوكرانيا أدهشنا الأداء المتواضع للجيش الروسي وبنفس الوقت فإن صمود الاقتصاد الروسي وتماسكه بوجه العقوبات الغربية لحد الآن أثار حيرة المراقبين والخبراء، وعند التدقيق في ذلك نجد أن العقوبات الغربية لم تكن مؤثرة على قطاعي النفط والغاز الروسي اللذين يشكلان العمود الفقري لهذا الاقتصاد وبنفس الوقت لا يستطيع العالم استبدال النفط والغاز الروسي بسبب حصة روسيا الكبيرة من سوق الطاقة إضافة لقلة الطاقة الانتاجية الفائضة لمنتجي النفط والغاز، لذا حينما يصل الحديث لعقوبات شديدة على هذين القطاعين يبدأ التردد والانقسام وبالتالي تتخذ عقوبات محدودة.

أذا أردت أن تعرف أسباب الحرب فعليك البحث عن الهيكل الاقتصادي الذي صنعها و جعلها ممكنة، فعند الرجوع للنصف الأول من القرن العشرين نجد أن بحث الاقتصادات الصناعية عن مناطق نفوذ أو مستعمرات لتحتكر أسواقها وموادها الخام قاد الى حربين عالميتين مدمرتين، لذا كانت الحرب متعلقة بالقوى الصناعية، لكن بعد انحسار الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين وانفتاح أسواق الدول على منافسة شبه عادلة عم الهدوء الدول الصناعية فلم تعد الحرب مربحة أو ممكنة.

الجيل الذي أعقب الحرب العالمية الثانية شهد صراعات وحروباً بالوكالة تعتبر جزءاً من الحرب الباردة كما في الحروب الصينية والكورية والفيتنامية أو جزءاً من انحسار الاستعمار كما في حرب الاستقلال الجزائرية، كما وجدت بؤر صراع مزمنة تعد من بقايا الإرث الاستعماري كما حصل في فلسطين وحروب العرب مع اسرائيل وفي كشمير وحروب الهند مع باكستان.

لكن ومنذ عام 1980 ظهر نوع جديد من الحروب يمكن ربطه بالاقتصادات المعتمدة على المواد الخام وأهمها النفط والغاز، فهذه الحروب عادة تصيب دولاً يشكل بيع المواد الخام أكثر من نصف وارداتها كما أن عدد سكانها معتدل لا كثير ولا قليل وتتميز بضعف مؤسساتها الديموقراطية وغياب مؤسسات المجتمع المدني ووجود طموحات إقليمية في أجندتها، لذا حينما نستعرض هذه الحروب بدءا بالحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 التي اشتعلت بسبب تبني كلا البلدين النفطيين لمشروع يحقق لهما الهيمنة الإقليمية، مرورا بحرب الكويت 1991 التي دارت حول منع نظام صدام من التحكم بمنابع نفط الخليج وبالتالي التحكم بالعالم، وصولا لحرب العراق 2003 التي استخدمت فيها الولايات المتحدة واردات النفط العراقي لتمويل تغيير راديكالي في العراق، والى هنا قد يقول قائل إن الأمر مرتبط بالعراق ونظام صدام أكثر من ارتباطه بالنفط ولكن مهلا فأبرز المتدخلين في الحرب الأهلية السورية هما إيران وروسيا وكلاهما بلدين نفطيين، كما ورطت حرب اليمن ثلاث دول نفطيه هي السعودية والإمارات وإيران في حرب بالوكالة، كما لا تبتعد الحرب الليبية كثيرا عن تأثير النفط الليبي وكذلك الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات، أما روسيا فقد تورطت في سلسلة من الحروب بداية من حربين في الشيشان وحرب في جورجيا وتدخل في سوريا وآخر في أوكرانيا 2014 وصولا للحرب الأخيرة الشاملة التي تشنها على أوكرانيا حاليا وهذا بسبب كون واردات المعادن والخامات من نفط وغاز وفحم وغيرها تفوق قليلا نصف حجم الاقتصاد الروسي.

فالنفط والغاز يدران عائدات معتبره تجعل السلطة تتركز لدى نخبة محدودة تكون قراراتها ورؤيتها للأمور ضيقة وقد يظهر زعيم وحيد يسيطر على المشهد السياسي (و يطالب بولاية ثالثة!) بينما يتم إخضاع الشعب لأن الإنتاجية تصبح غير مهمه مقارنة بالولاء السياسي، وحتى تكتمل الخلطة يجب أن ينغمس مثل هذا النظام في أحلام من القرون السالفة مثل أحلام روسيا القيصرية وروسيا مير (المجال الثقافي والحيوي الروسي) الخ... كما أن وجود مورد مالي غير مرتبط باستقرار المجتمع وإنتاجيته يجعل تمويل الحرب ممكنا.

طبعا لم تنزلق جميع البلدان النفطية في هذه الهاوية فالنرويج كبلد نفطي على سبيل المثال تضغط على نفسها لإبقاء واردات النفط لا تتجاوز نصف ناتجها الإجمالي حيث تترك جزءاً معتبراً من أموالها النفطية في صندوق الأجيال إضافة لقوة مؤسساتها الديمقراطية والدستورية. أما الصين وكندا فعلى الرغم من إنتاجهما النفطي الذي يقترب من 5 مليون برميل يوميا لكل منهما ألا أن ذلك لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من ناتجهما الإجمالي، فيما سيطرت أنظمة حكم دكتاتورية في بلدان نفطيه مثل فنزويلا وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان لكنها لم تنزلق للحرب لأنها لم تتبنى مشاريع إقليمية كما لا تحتوي مزيج أثني، لذا ليست جميع الحروب الحديثة مرتبطة بالنفط ولكن حينما ننظر للبلدان النفطية التي تشكل اقل من 10% من عدد بلدان العالم نجدها متورطة في 50% تقريبا من الصراعات الحديثة كما لا تبتعد الحروب الأهلية في أفريقيا عن متلازمة الصراع على الخامات والمعادن في ظل اقتصادات إنتاجيتها ضعيفة، لذا فإن البلدان ذات الاقتصادات المعتمدة على الخامات ستبقى في وضع هش عرضة للتورط في حرب خارجية أو داخلية الى أن تتمكن من تنمية و تطوير اقتصاداتها بما يقلص واردات الخامات من الناتج الإجمالي للنصف أو دون ذلك.


مشاهدات 1216
أضيف 2022/04/13 - 8:52 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 7792 الشهر 65535 الكلي 7950631
الوقت الآن
الأربعاء 2024/4/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير