نظرية التأمل في اتخاذ القرار الاقتصادي
مظهر محمد صالح

تفيق الحياة الاقتصادية اليوم من دون استثناء لتمتحن تيارا اقتصاديا بدأ يتخطى حواجز المدرسة النيوكلاسيكية منذ العام 1979 والتحول إلى ما يسمى بعلم الاقتصاد السلوكي الذي يعتمد نظرية التأمل والتصور في اتخاذ القرارات الاقتصادية، إذ عدت تلك النظرية كمفترق طرق في دمج العوامل السلوكية النفسية في النماذج والموديلات الاقتصادية المتصلة بالقرار الاقتصادي، فالاطار التقليدي لعملية صنع القرار التي تعتمدها التيارات الرئيسة أو السائدة كالاقتصاد النيوكلاسيكي على سبيل المثال تنصرف إلى تبنى خيارات بين مختلف البدائل المتاحة اعتمادا على النتائج المرجوة منها وعبر الأهداف التي يتطلع إليها صانع القرار نفسه والتي يلخصها علم الاقتصاد الرياضي بصورة دالة منفعة في الغالب.

وتستمد نظرية القرار الاقتصادي على وصف الشروط التي يمكن أن تحقق الخيار "والمقصود هنا الخيار الأمثل وتحديد خصائصه"، فعندما يكون هنالك خطر اقتصادي "ونعني به الخسارة" فان البديل المتاح لكل خيار سيوفر توزيع احتمالي عن إمكانية تحقيق النتائج التي يقوم من خلالها صانع القرار باختيار افضل التوزيعات الاحتمالية.

وبغض النظر عن هذا وذاك في التصدي إلى مسألة صناعة القرار في التيارات الرئيسة لعلم الاقتصاد، فقد جاءت المباءي الأساسية لنظرية التأمل وبناء التصورات مرتكنة إلى مبادى خمسة منذ ولادتها في العام 1979. إذ قاد التيار في علم الاقتصاد السلوكي كمدرسة جديدة في العلوم الاقتصادية رواد أمثال دانيال كانمان وريتشارد ثيلر اللذان حصلا على جائزتي نوبل في الاقتصاد في العامين 2002 و2017 على التوالي.

وبهذا يقودنا استجماع الأفكار لكي نلخص المبادئ الخمسة الأساسية لنظرية التأمل والتصور عند متخذي القرار الاقتصادي وعلى وفق الرؤية التي جاء بها دانتيال كانمان وغيره وعلى النحو الاتي: ينصرف المبدأ الاول إلى فكرة ان اتخاذ القرار الفعلي في العمل الاقتصادي يستجيب (للتغيرات في الثروة) بدلا من الثروة نفسها، أي التغير في القيمة الكلية لصافي موجودات الفرد الواحد واصوله، ويأتي هذا المبدأ على عكس التيارات التقليدية السائدة في علم الاقتصاد التي ترى أن اتخاذ القرار يأتي استجابة لقضيتي "الربح والخسارة".

أما المبدأ الثاني الذي تتصدى إليه نظرية التأمل فيتمثل "باختلاف المواقف إزاء المخاطر" أي درجة الاختلاف في تحمل المخاطر ولاسيما مواجهة الخسارة، إذ يتحقق الاختلاف حتى داخل النقطة الزمنية نفسها وتعتمد على قوة التشخيص لدى متخذ القرار فيما اذا كانت الخسارة قائمة حقا ام لا؟ وهذا يتطلب القدرة على تشخيص السياقات المتعلقة بتجنب الخسارة حيث تختلف أهمية تجنب الخسارة بأهمية تشخيص السياقات.

ويأتي المبدأ الثالث قائما على ظاهرة ما يسمى "بالتحسس المتناقص" إزاء الأرباح والخسائر، إذ يحتاج التحسس المتناقص إلى مدى دقيق يقوم على تقديرات تأتي طبقا للسياقات المختلفة للافراد من متخذي القرار. ويلحظ في المبدأ الرابع ان متخذي القرارات الاقتصادية وصناعها لا يبنون في نظرية التأمل خياراتهم على نظرية الاحتمالات كما تذهب إليه المدرسية النيوكلاسيكية في الاقتصاد، ولكن يعتمدون على ما يرونه أنها فرصة نجاح متأتية، أي توافر عنصر التفاؤل. وهي الحالة التي ينظر إليها على انها "حالة التحول في الاحتمالات" وهنا تختلف نظرية التأمل عن نظرية الاحتمالات عند صناع القرار ولاسيما في الاحتمالات الضعيفة التحقق أو القليلة، والتي عادة ما تكون مغالى جدا في قيمتها أو في بعض الأحيان تبخس قيمتها جدا أو حتى تهمل فالاحتمالات الأكثر موضوعية هي بحاجة إلى "التحول أو التبدل" مما يقتضي الحال حصرها وتأشيرها.

وأخيرا يلحظ أن نظرية التأمل التي يتصدى إليها علم الاقتصاد السلوكي هي مازالت في طور النشوء، لذا فان الأساس الغالب في صناعة القرار يقوم على مبدأ مصاحب للتأمل يسمى "بالتصور"، أذ تخضع التصورات لنوعين من الخيارات وهما : الخيار الواسع أو عكسه الخسار الضيق، حيث يطلق على الأخير أي الخيار الضيق في التصور بظاهرة قصر النظر في اتخاذ القرار، ولكن تبقى التصورات مهمة في صناعة القرار وتظل الحاجة إليها مستمرة كقوة تقديرية طالما تظهر نظرية التأمل بانها ذات أهمية فائقة في بناء القرارات.

ختاما، فقد أظهرت المدارس الاقتصادية الرئيسة في علم الاقتصاد، كالمدرسة النيوكلاسيكية والمدرسة الكنزية الحديثة، تحفظا قويا في استعمال نظرية التأمل في اتخاذ القرارات الاقتصادية ذلك لسببين رئيسيين أولهما: إن التوقعات هي قابلة للتعديل بسبب تحول الاحتمالات والثاني أن نقاط الاستدلال أو النقاط التأشيرية التي تستدل بها نطرية التأمل مازالت غير مكتملة وتعاني من نقص في التوصيف عند اتخاذ القرار في العالم الحقيقي، وبهذا فان تطور الفكر الاقتصادي في ظلال الثورة التكنولوجية الرابعة أو العصر الرقمي الراهن جاء متأثرا بالنظرية بالبايولوجية أو الاحيائية في النمط السلوكي الاقتصادي للقرن الحادي والعشرين والابتعاد عن قوالب التفكير للنمط الفيزيائي وثوابته الذي قادته الثورتين التكنولوجيتين الثانية والثالثة ابان القرن العشرين.

 

المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء العراقي

 

نقلا عن شبكة الاقتصاديين العراقيين


مشاهدات 3781
أضيف 2018/01/08 - 12:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 13424 الشهر 65535 الكلي 8068580
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/4/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير