الاقتصاد العراقي وتآكل الناتج المحلي الإجمالي.. الأسباب الهيكلية- السياسات المضادة

                                                                           د. هيثم حميد مطلك المنصور

 

يشكل عام 2025 جرس انذار للاقتصاد العراقي، ليؤكد أن القطاع النفطي وحده لم يعد كافياً لضمان سير حركة النشاط الاقتصادي. فالقرارات التي ستتخذ خلال السنوات القليلة المقبلة ربما هي التي ستحدد ما إذا كان العراق سينجح في تحويل وفرة موارده الطبيعية إلى تنمية حقيقية واقتصاد كفوء، أم سيستمر في الدوران داخل حلقة الريع بانتظار صدمة نفطية جديدة تعيد طرح الأسئلة القديمة نفسها. من هنا كان لموضوع تقلبات الناتج وإدارته أهمية بالغة في تعديل مسار الاقتصاد في ظل النمو السكاني المتزايد والعديد من المشكلات الهيكلية العميقة التي تمس جوهر الاقتصاد.

 يتعرض الناتج المحلي الإجمالي العراقي لتآكل مستمر ومزمن، رغم أن البلد يمتلك ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم. لم يكن هذا التراجع مفاجئاً، بل هو نتيجة تراكمية لعقود من سوء إدارة الاقتصاد وعدم كفاءة في تقدير وإنجاز الموازنة العامة. حيث تشير بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2025 إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للعراق يقدر بنحو 265.45 مليار دولار، بانخفاض كبير عن العام السابق.

اذ يسفر التتبع  للمسار التاريخي للناتج المحلي الإجمالي العراقي عن تشخيص ثلاث مراحل :

1.مرحلة النمو المطرد (1970-1980): شهد الناتج المحلي الإجمالي  فيها  نمواً متسارعا خلال السبعينيات، مدفوعاً بتأميم النفط وارتفاع الأسعار العالمية، حيث ارتفع من 2.3 مليار دولار عام 1970 إلى 31 مليار دولار عام 1979.

2.مرحلة التدهور (1980-2003): غرقت البلاد في حرب مدمرة مع إيران (1980-1988)، تلتها حرب الخليج والعقوبات الدولية الشاملة، مما أدى إلى انهيار الناتج المحلي الاجمالي ليصل إلى 400 مليون دولار فقط في عام 1991. فقد أشارت تقديرات صندوق النقد الدولي، الى ان قيم الناتج المحلي الإجمالي الاسمي خلال هذه الفترة تراوحت بين 15.8 مليار دولار عام 2003 و36.6 مليار دولار عام 2004، اثر حالة التدهور الحادة التي عاشها الاقتصاد.

3.مرحلة النمو والتقلبات ( 2003-2025) : رغم الارتفاع الواضح بفعل طفرة أسعار النفط، بقي الاقتصاد العراقي رهينة تقلبات السوق العالمية والمتغيرات السياسية المتقلبة. وبحسب البيانات الاقتصادية، وصل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي إلى ذروته التاريخية في عام 2022 بقيمة 287.37 مليار دولار بمعدل نمو سنوي 7.7 %، لينخفض بعدها تدريجياً إلى 265.45 مليار دولار في عام 2025 بمعدل نمو سنوي 0.5% بعد ان بلغ نموه السنوي سالب 0.2%. عام 2024. ونتيجة لهذا التراجع نجد ان التغير في نصيب الفرد من الناتج تراجع الى سالب  7.1% عام 2025 مما يدل على وجود مشكلة حقيقية تظهر من خلال قراءة معدلات التغير السنوي من الناتج المحلي الإجمالي ومنه التغير السنوي لنصيب الفرد  من الناتج المحلي الاجمالي، وانعكاسها السلبي على الواقع المعيشي والاقتصادي والاستثماري .

جدول يوضح تطور الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد في العراق خلال السنوات الأخيرة:

السنة

الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (مليار دولار)

نمو الناتج المحلي الإجمالي (%)

نصيب الفرد من الناتج (دولار)

التغير في نصيب الفرد (%)

2022

288.06

7.7

6,818

33.2

2023

270.80

0.9

6,251

-9.1

2024

278.77

-0.2

6,277

0.4

2025

265.45

0.5

5,832

-7.1

المصدر: بيانات من صندوق النقد الدولي لعام 2025

ومنه يمكن تفسير استمرار تقلبات الناتج المحلي الإجمالي باعتباره مظهراً خارجيا  لمشكلات هيكلية عميقة في الاقتصاد العراقي ، بالعديد من الأسباب من اهمها:

  1. الاعتماد شبه الكامل للموازنة العامة على النفط : تشكل عائدات النفط أكثر من 93% من الايرادات الحكومية ، مما يجعل المالية العامة تابعة لتقلبات الأسعار العالمية. اذ بلغ سعر التعادل للموازنة العامة حوالي70 دولاراً للبرميل في عام 2025، بينما تراوحت الأسعار الفعلية حول 52-60 دولاراً، مما خلق فجوة تمويلية ضخمة ادت إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 0.9% في عام 2025.
  2. ضعف القطاع غير النفطي :يُظهر القطاع غير النفطي نمواً هامشياً لا يتجاوز 1-4%، وهو معدل لا يتناسب مع حجم القوى العاملة المتاحة ولا يساهم في خلق فرص عمل كافية. يواجه هذا القطاع تحديات هيكلية تشمل ضعف الصناعة والزراعة والسياحة ، وتعقيدات بيئة الأعمال، ونقص البنية التحتية الداعمة.
  3. هيمنة القطاع العام وثقل النفقات الجارية: يعمل أكثر من 40% من القوة العاملة العراقية في القطاع العام ومؤسسات الدولة، مستحوذاً على 59% من إجمالي النفقات العامة في النصف الأول من عام 2025. فيستهلك الإنفاق التشغيلي (الرواتب والتقاعد والرعاية الاجتماعية) ما بين 67% إلى 70% من إجمالي النفقات، مما يحد بشكل واضح من الاستثمار في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية.
  4. ازدياد حجم السكان : يحتم على الدولة التخطيط  طويل الاجل لاستيعاب نسبة نمو السكان، عبر التخطيط لتنظيم مسار الناتج المحلي الإجمالي وجعله متناسبا مع القاعدة السكانية والهرم السكاني ، ذلك ان الزيادات السكانية مستمرة والناتج متقلب وغير مستدام ؟ فوفقًا لتعداد عام 2024 في العراق، كان معدل النمو السكاني السنوي 2.33%، حيث وصل إجمالي السكان إلى حوالي 46.1 مليون نسمة، مع وصول نسبة السكان في سن العمل (15-64 سنة) إلى 60.2%، مما يدخل العراق مرحلة الهبة الديموغرافية. التي تشكل تحديا حقيقيا للاقتصاد العراقي في مهمة استيعاب النمو السكاني اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا.
  5. الأزمة البيئية : تعتبر أزمة المياه والجفاف أحد أخطر التحديات طويلة الأمد، حيث أدى انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات وروافدهما إلى تقلص المساحات الزراعية وتراجع إنتاج الحبوب مما انعكس على زيادة حجم الاستيراد الغذائي.
  6. الفساد المالي والإداري: يعتبر الفساد المالي والإداري أحد أبرز العقبات أمام التنمية الاقتصادية في العراق، حيث تعاني عمليات المشتريات الحكومية من تضخم العقود وعمولات الرشاوى السياسية. اشار تقرير لصندوق النقد الدولي عام 2025 إلى ضرورة تعزيز أطر المساءلة لعمليات المؤسسات المملوكة للدولة في قطاعات النفط والكهرباء والبناء وغيرها.

السياسات المضادة: ثمة سياسات للمعالجة نقترح  من أهمها مايأتي :

  1. تنويع مصادر الدخل للاقتصاد الكلي: عبر تنمية القطاعات غير النفطية من خلال  إعادة تصميم السياسات الزراعية والصناعية التحويلية والسياحية ، حيث يمكن أن تضاعف الإصلاحات الشاملة معدل النمو المحتمل للقطاع غير النفطي على المدى المتوسط. وكذلك من خلال  إعادة صياغة سياسات النظام الضريبي من اجل تعزيز الإيرادات غير النفطية من خلال تطوير الإدارة الضريبية الرقمية، ومراجعة الرسوم الجمركية، وفرض ضرائب انتقائية، والانتقال التدريجي نحو فرض ضريبة عامة على المبيعات.
  2. إصلاح نظام الموازنة والإنفاق العام: من خلال التركيز على المحاور الآتية:
  • التخلي عن نهج الموازنة التقليدية القائمة على البنود و التحول إلى موازنة البرامج والأداء.
  • ربط الاعتمادات المالية بالأهداف والنتائج القابلة للقياس.
  • دمج موازنة الاستثمار مع موازنة التشغيل لرؤية شاملة.
  • إعادة هيكلة الإنفاق: تحويل الموارد من النفقات الجارية إلى الاستثمارات الإنتاجية، حيث لا تتجاوز حصة الإنفاق الاستثماري حالياً 6.9% من إجمالي النفقات.
  • تدعيم نظام الرواتب بقواعد التوظيف المنتج ومراجعة هيكل الرواتب لربطها بالإنتاجية.
  1. استهداف الاستقرار النقدي: أن يحافظ  البنك المركزي على هدفه العام لمعدل تضخم متدن ومستقر عبر استدامة نظام سعر الصرف الثابت والتحكم  بالمعروض النقدي، لبلوغ الاستقرار في المستوى العام للأسعار ومنع تقلبها اكثر من المعدل، مما يعزز الثقة في العملة المحلية، ويقلل من عدم اليقين، ويدعم الاستثمار والنمو الاقتصادي المستدام، حيث يُعتبر استقرار التضخم  شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي الكلي.
  2.  تعزيز الإدارة الرشيدة ومكافحة الفساد : عبر تفعيل قانون الشفافية والحصول على المعلومات، والالتزام بمعايير مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية، وتحديث الأطر القانونية لمكافحة الفساد بما يتماشى مع الاتفاقيات الدولية والممارسات الفضلى. وتطبيق نظام إدارة مالية متكامل: تعميم نظام الإدارة المالية المتكاملة (IFMIS) الذي يخضع عمليات الإدارة المالية العامة لنظام قائم على القواعد والقابل للتدقيق.
  3.  تحفيز نشاط القطاع الخاص وخلق فرص العمل: إصلاح بيئة الأعمال: تخفيف العوائق البيروقراطية، وتبسيط إجراءات تسجيل الشركات والإجراءات الضريبية، ووضع لوائح عمل مرنة تشجع التوظيف الرسمي. وتطوير القطاع المصرفي عبر إعادة هيكلة المصارف المملوكة للدولة وتمكين المصارف الخاصة من خلال تحسين الحوكمة والبنية التحتية الرقمية والأمن السيبراني.
  4.  الاستثمار في البنية التحتية والطاقة المتجددة :تطوير قطاع الكهرباء: من خلال معالجة الخسائر الفنية التي تصل إلى 55% من إجمالي الإنتاج، ونشر العدادات الذكية، وتحسين الجباية، وتنويع مصادر التوليد. والتحول نحو الطاقة الشمسية ، مما يقلل من الاعتماد على النفط ويدعم أهداف التنويع الاقتصادي.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام


مشاهدات 108
أضيف 2025/12/28 - 5:10 PM