العراق بين تحديات الأمس وفرص الإصلاح: قراءة في التحولات الاقتصادية في عهد حكومة السوداني

بقلم الدكتور صالح ماهود سلمان / مستشار رئيس الوزراء 

 

الاقتصاد العراقي ليس مجرد أرقام في الموازنة أو بيانات تصدرها المؤسسات المالية، بل هو قصة بلد عانى لعقود من أزمات متلاحقة تركت أثرها في حياة الناس ومعيشتهم اليومية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، دخل العراق في دوامة الحروب والحصار، ما أخرج مصارفه من المنظومة المالية العالمية، وأضعف قدرته على جذب الاستثمارات، وأدى إلى اعتماد شبه كلي على عائدات النفط. وبعد عام 2003، ورغم الانفتاح الكبير على الأسواق الدولية، بقي جزء مهم من المصارف أشبه بـ”واجهات شكلية” لبيع العملة عبر نافذة البنك المركزي، ولم تتمكن من ممارسة العمل المصرفي الحديث، فيما بقيت الشركات العامة عبئاً ثقيلاً على الموازنة من دون مردود إنتاجي يوازي ما تستهلكه من موارد.

هذه الصورة القاتمة ترافقها مشكلات أخرى، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وضعف القطاعات الإنتاجية، والبيروقراطية الثقيلة، فضلاً عن الفساد الذي استنزف موارد الدولة. وأمام هذه التحديات المعقدة، جاء البرنامج الحكومي للسيد محمد شياع السوداني حاملاً معه جملة من الأولويات المركزية، كان الإصلاح الاقتصادي في مقدمتها، إلى جانب إصلاح النظام المصرفي، وتفعيل الدفع الإلكتروني، واستكمال الخزينة الموحدة، وتحسين بيئة الأعمال، وإصلاح المنظومة الضريبية والكمركية. وهكذا بدأ العراق يتهيأ لمرحلة جديدة، بعدما أدركت الحكومة أن الاستمرار بالنهج القديم لم يعد خياراً ممكناً.

ومن هنا برزت الحاجة إلى مواجهة الإرث الاقتصادي الثقيل الذي كبّل البلاد لعقود طويلة. فقد ظل الاقتصاد أسيراً لريعية النفط، فيما تراجعت القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية وارتفعت معدلات البطالة والفقر. ولعل الخطوة الأولى كانت إعادة النظر بدور الشركات العامة والجهاز الحكومي، إذ شُكّلت لجان عليا لإعادة هيكلتها وفق فلسفة جديدة تجعل الدولة “مديراً لا مالكاً”، وهو ما مثّل بداية عملية لإصلاح شامل يمهد لاقتصاد أكثر مرونة.

وبينما كانت هذه الجهود تتعلق بالبنية المؤسسية، فإن الإصلاح المالي شكّل الوجه الآخر للعملية. فاعتماد موازنة ثلاثية السنوات (2023–2025) لم يكن مجرد إجراء محاسبي، بل خطوة غير مسبوقة ركزت على الإنفاق الاستثماري بدلاً من التشغيلي، وأطلقت معها حزم ضريبية إصلاحية تستهدف رفع الجباية بنسبة ثلاثين في المئة بحلول 2025. ومع اعتماد الخزينة الموحدة والتحول إلى الأتمتة والدفع الإلكتروني، سرعان ما انعكست هذه القرارات على الإيرادات التي سجلت قفزة ملحوظة تجاوزت المئة في المئة مقارنة بالسنوات السابقة.

ومع أن ضبط الموازنة كان ضرورياً، إلا أن إصلاح القطاع المالي وحده لا يكفي من دون معالجة عصب الاقتصاد: النظام المصرفي. هنا جاء انطلاق منصة التمويل التجاري الجديدة في تشرين الثاني 2022 ليغيّر طبيعة العمل المصرفي في العراق. فمن خلال ربط التحويلات الخارجية بالمصارف الأهلية تحت إشراف البنك المركزي، جرى ضبط السوق الموازي وانخفض الفارق بين السعرين الرسمي والموازي بأكثر من ستين في المئة. وبالتوازي، بدأت عملية إعادة هيكلة مصرفي الرافدين والرشيد بدعم دولي، ما حوّل المصارف من مجرد وسطاء للعملة إلى مؤسسات مالية حديثة، حتى وصفت الخزانة الأمريكية هذه الخطوة بأنها “إنجاز تاريخي”.

ومن رحم هذه التحولات المصرفية انبثقت تجربة الدفع الإلكتروني التي سرعان ما أصبحت العنوان الأبرز للإصلاح. فما أن أُلزمت الدوائر الحكومية باستخدامه حتى اتسعت التجربة لتشمل القطاع الخاص، لترتفع نقاط البيع من عشرة آلاف في عام 2022 إلى خمسين ألفاً في 2025، ويقفز حجم المدفوعات الشهرية من تسعين مليار دينار إلى أكثر من خمسمئة مليار. كما ارتفع عدد البطاقات المصرفية إلى اثنين وعشرين مليوناً، وقفزت نسبة الشمول المالي من أقل من عشرة في المئة إلى أربعين في المئة خلال ثلاث سنوات فقط، وهو إنجاز اعتبره البنك الدولي فريداً مقارنة بدول مستقرة استغرقت عقداً كاملاً لتحقيق ما أنجزه العراق في سنتين.

ولأن المال يحتاج إلى بيئة تستوعبه، فقد كان من الطبيعي أن تمتد الإصلاحات إلى مجال الاستثمار والبنية التحتية. هكذا وُلد مشروع “طريق التنمية” وميناء الفاو الكبير كعنوانين لمستقبل اقتصادي يربط الخليج بأوروبا، فيما جرى توقيع اتفاقيات مع البنك الدولي لتمويل مشاريع في السكك الحديدية والطاقة والمياه. أما داخلياً، فقد شرع العراق في توطين الصناعات الدوائية والإنشائية وافتتاح مشاريع صناعية بمختلف الأحجام، إلى جانب إطلاق مبادرات للطاقة الشمسية في المصانع لتخفيف الضغط على الشبكة الوطنية. وبذلك أصبحت الإصلاحات أكثر شمولية، لا تقتصر على المال والمصارف بل تمتد إلى البنية الإنتاجية والتنموية.

وإذا كانت الخطط والسياسات مهمة، فإن لغة الأرقام تبقى الشاهد الأصدق على حجم التحول. فقد ارتفع الاحتياطي الأجنبي إلى 106 مليارات دولار في آذار 2025 بعد أن كان 86 ملياراً في نهاية 2022، بنسبة نمو بلغت اكثر من اثني عشر في المئة. وصعد احتياطي الذهب من 130 طناً إلى 163 طناً خلال الفترة نفسها بزيادة قدرها خمسة وعشرون في المئة. أما التضخم، فانخفض من 7.5% إلى 2.7%، وهو ما يعكس استقراراً نقدياً ملموساً. وفي القطاع المصرفي، تضاعف عدد الحسابات من ثمانية ملايين إلى عشرين مليوناً، وارتفع عدد البطاقات المصرفية من ستة عشر إلى اثنين وعشرين مليوناً. كما قفزت البنية التحتية للدفع الإلكتروني بقوة، فارتفعت نقاط البيع من عشرة آلاف إلى خمسين ألفاً، وزادت المدفوعات الشهرية بنسبة 460%.

هذه المؤشرات لم تقف عند هذا الحد، إذ تراجع الفارق بين السعر الرسمي والموازي بأكثر من ستين في المئة، وارتفعت نسبة الشمول المالي إلى أربعين في المئة بعد أن كانت أقل من عشرة في المئة قبل عامين فقط. كما وُقّعت اتفاقيات تمويل دولية بقيمة 1.2 مليار دولار، وارتفعت الحصيلة الضريبية في 2024 بنحو ثلاثين في المئة مقارنة بالسنة السابقة. وفي ميدان التحول الرقمي، دُشّنت بوابة “أور” الإلكترونية والجواز الإلكتروني، وأُلغيت معاملات صحة الصدور عبر نظام الوثائق المؤمنة الذي عالج أكثر من خمسة عشر مليون معاملة. أما في الجمارك، فقد ارتفعت الإيرادات إلى 2.131 ترليون دينار في 2024 مقابل 1.03 ترليون في 2023، بنسبة زيادة بلغت 106%، وبمعدل نمو بلغ 128% مقارنة بما قبل 2022.

ولم تقتصر التحولات على المال والإيرادات، بل شملت المبادرات التنموية أيضاً. فقد أطلق البنك المركزي والمصارف الحكومية برامج لدعم الإسكان والطاقة المتجددة وريادة الشباب والمدن الصناعية، كما تأسس صندوق العراق للتنمية ليكون ذراعاً تمويلية جديدة. وفي القطاع الصناعي، انطلقت خطوات عملية لتوطين الصناعات الدوائية والإنشائية، وافتُتحت مشاريع إنتاجية متنوعة، وأُطلقت مبادرات لتجهيز المصانع بالطاقة الشمسية، إلى جانب توقيع اتفاقيات مع اتحادات صناعية عالمية.

 

ومع كل هذه النتائج، لا يمكن إنكار أن الطريق ما زال مليئاً بالتحديات. فما زال النفط يشكل العمود الفقري للموازنة، وما زالت البيروقراطية والفساد عائقين أساسيين أمام توطيد الإصلاح. ومع ذلك، تبدو الأهداف التي وضعتها الحكومة حتى 2026 طموحة وواقعية في آن واحد: تقليص الاعتماد على النفط إلى أقل من 85% من الإيرادات، وخفض العجز المالي إلى أقل من 3% من الناتج المحلي، وتحسين التصنيف الائتماني للعراق، واستكمال التحول الرقمي في المالية العامة.

هكذا يقف العراق اليوم عند مفترق تاريخي. فبعد عقود من الأزمات والاضطرابات، بدأت الإصلاحات تتحول إلى حقائق ملموسة بالأرقام والمؤشرات. صحيح أن الطريق ما زال طويلاً، لكن ما تحقق في فترة قصيرة يثبت أن التغيير ممكن متى ما توافرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة. إن العراق بدأ يخطو بثبات نحو اقتصاد أكثر تنوعاً وصلابة، اقتصاد يضع الإنسان في قلب التنمية، ويمنح الأجيال المقبلة أملاً في وطن قادر على النهوض من جديد.

 


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام


مشاهدات 404
أضيف 2025/09/19 - 7:31 PM