الدفع الإلكتروني في العراق.. خطوات واسعة وتحديات قائمة

 

يشهد العراق تحولات متسارعة في بنية أنظمته المالية مع تزايد الاعتماد على وسائل الدفع الإلكتروني بدلاً من التعاملات النقدية المباشرة. هذا الانتقال ليس مجرد تحديث تقني، بل يمثل خطوة أساسية نحو بناء اقتصاد أكثر شفافية، قادر على مواكبة متغيرات الأسواق الإقليمية والعالمية.

من الكاش إلى البطاقة

إعلان البنك المركزي العراقي مؤخراً عن وصول عدد بطاقات الموظفين الموطنة إلى 5.6 ملايين بطاقة يشير بوضوح إلى عمق التحول الجاري. فبعد سنوات من الاعتماد شبه الكامل على النقد، باتت شرائح واسعة من العراقيين – موظفين ومتقاعدين – يتعاملون يومياً مع البطاقات الإلكترونية كوسيلة رئيسية لاستلام رواتبهم وإجراء معاملاتهم.

هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في بلد ظلّ لفترة طويلة أسيراً للسيولة النقدية، حيث كانت الرواتب الضخمة تُصرف نقداً بما يرهق الجهاز المصرفي ويزيد من المخاطر الأمنية والاقتصادية.

الريادة ودور الشركات المحلية

من بين الشركات التي أسست لهذا التحول، برزت كي كارد كأول شركة دفع إلكتروني في العراق، واضعةً حجر الأساس لتجربة وطنية في مجال التكنولوجيا المالية. انطلقت الشركة بخدمة أساسية هي توطين الرواتب، لكنها تحولت تدريجياً إلى لاعب رئيسي يوفر خدمات دفع وتمويل متعددة.

ورغم التحديات التي واجهت عملها في بيئة صعبة، فإن حضور كي كارد ساعد على تعزيز ثقة المستخدمين بالخدمات الرقمية، وأتاح الوصول إلى فئات في القرى والأرياف، ما جعل الدفع الإلكتروني جزءاً من الحياة اليومية لشريحة متنامية من العراقيين.

توسع في الخدمات

لم يتوقف التطور عند إصدار البطاقات، بل شمل إدخال خدمات مثل:

التحديث البايومتري لضمان دقة بيانات المستخدم.

أنظمة السلف الإلكترونية التي توفر سيولة عاجلة.

خدمات التقسيط في الجامعات والمستشفيات ومحال البيع بالتجزئة.

أجهزة نقاط البيع (POS) المنتشرة في الأسواق والمحلات.

هذه الخدمات عززت من القيمة المضافة لقطاع الدفع الإلكتروني، وربطت المستهلك بشكل أعمق بالنظام المالي الرسمي.

تجربة المستخدم.. المؤشر الأهم

العامل الحاسم في نجاح الدفع الإلكتروني لم يكن عدد البطاقات بقدر ما كان رضا المستخدمين. الموظف أو المتقاعد الذي كان يضطر للانتظار ساعات في طوابير المصارف أصبح قادراً على استلام راتبه عبر البطاقة بشكل سريع وآمن.

تجربة المستخدم هذه انعكست مباشرة على انتشار الخدمة. فكلما كانت الإجراءات أكثر سلاسة، ارتفعت نسبة الإقبال. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة في بعض المناطق بسبب ضعف البنية التحتية للاتصالات أو نقص الوعي المالي.

القطاع الخاص والتوجه الحكومي

تعميم الدفع الإلكتروني لم يقتصر على الموظفين الحكوميين. فالحكومة تبنّت سياسة واضحة لنشر أجهزة نقاط البيع في مختلف الأسواق، بما يشمل القطاع الخاص، لتوسيع قاعدة المستخدمين وتقليل التعامل بالكاش.

شركات الدفع استجابت لهذه السياسة، فبدأت بتوفير بطاقات وخدمات تعمل داخل العراق وخارجه، وهو ما يمنح المستهلك مرونة أكبر ويضع العراق على طريق الاندماج في النظام المالي العالمي.

الأرقام والحقائق

تجاوز عدد بطاقات الدفع الإلكتروني في العراق 12 مليون بطاقة.

آلاف أجهزة نقاط البيع باتت منتشرة في الأسواق.

شريحة واسعة من الجامعات والمؤسسات باتت تعتمد على أنظمة التقسيط الرقمية.

هذه الأرقام تعكس حجم التغير، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى حجم العمل المطلوب لتأمين البنية التحتية وتحديث التشريعات.

التكنولوجيا والتطبيقات الجديدة

مع تزايد الطلب على الحلول الرقمية، برزت تطبيقات مثل "سوبر كي"، التي تجمع بين الدفع والتحويل والخدمات الحكومية في منصة واحدة. هذه التطبيقات لا تقتصر على تسهيل المعاملات المالية، بل تقدم نموذجاً عملياً للتكامل بين القطاعين العام والخاص، عبر خدمات مثل دفع فواتير الماء والكهرباء أو تسديد رسوم حكومية إلكترونياً.

التحديات التي لا يمكن إغفالها

رغم هذه النجاحات، يواجه القطاع عدداً من التحديات، أبرزها:

ضعف الوعي المالي لدى جزء من المستخدمين، ما يعرقل الاستفادة الكاملة من الخدمات.

تذبذب خدمات الإنترنت في بعض المناطق، وهو ما يحد من استقرار العمليات.

الحاجة إلى تشريعات أكثر مرونة لمواكبة تطور التكنولوجيا المالية.

منافسة البنوك التقليدية التي لا تزال تحافظ على جزء من حصتها النقدية.

نحو اقتصاد رقمي متكامل

نجاح الدفع الإلكتروني لا يقتصر على تسهيل المعاملات فحسب، بل يمتد ليكون أداة في محاربة الفساد، تقليص التهرب الضريبي، وتعزيز الشمول المالي. البيانات المتولدة عن ملايين المعاملات تمثل ثروة يمكن أن تساعد صانعي القرار في رسم سياسات اقتصادية أكثر دقة.

إن تجربة الدفع الإلكتروني في العراق تمثل قصة نجاح آخذة في التوسع، لكنها لا تزال بحاجة إلى تعزيز البنية التحتية وتطوير الأطر التشريعية وتكثيف برامج التثقيف المالي. وبين الدور التنظيمي للبنك المركزي، واستثمارات الشركات المحلية مثل كي كارد، وجهود الحكومة في التوسع بالقطاع، يتشكل مسار واضح نحو اقتصاد رقمي قد يكون من أبرز عناوين التنمية الاقتصادية في العراق خلال العقد المقبل.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام


مشاهدات 83
أضيف 2025/09/18 - 4:38 PM