منذ أكثر من عقد، ظل ملف نفط إقليم كردستان أحد أعقد الملفات في العلاقة بين بغداد وأربيل، حيث تتشابك فيه المصالح الاقتصادية بالحسابات السياسية، وتتعقد آلياته بفعل غياب الشفافية واستمرار الخلافات حول إدارة الموارد.
وبلغت الأزمة ذروتها في آذار 2023 حين توقفت صادرات الإقليم عبر خط جيهان التركي بقرار قضائي، لتدخل بغداد وأربيل في دوامة من المفاوضات والاتهامات المتبادلة، وسط خسائر فادحة تجاوزت 25 مليار دولار للإقليم وحده، وفقدان العراق 300 ألف برميل يومياً من حصته في "أوبك+".
ورغم إقرار البرلمان في شباط 2024 خطة لتعويض الشركات النفطية العاملة في الإقليم، بقيت الملفات العالقة، من تسليم الإيرادات غير النفطية إلى معالجة ديون الشركات الأجنبية.
وفي آب 2025، أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التوصل إلى اتفاق جديد مع حكومة الإقليم يقضي بتسليم كامل إنتاجه من النفط لشركة "سومو" مقابل التزامات مالية محددة، في خطوة وُصفت بأنها "انفراجة" قد تنهي الأزمة.
ورغم الاتفاقات المتكررة التي تهدف إلى إنهاء أزمة تصدير نفط إقليم كردستان وضمان تدفق الإيرادات إلى الخزينة الاتحادية، تبرز اتهامات من قبل بعض النواب بغياب الشفافية وعدم تنفيذ الإقليم لالتزاماته كاملة، وسط استمرار الحديث عن تهريب النفط والسيطرة المنفردة على المنافذ الحدودية، ما يثير تساؤلات حول جدوى هذه الاتفاقات وقدرتها على معالجة جذور الأزمة.
إلى ذلك، كشف عضو مجلس النواب، معين الكاظمي، أن الاتفاق بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، الذي أُطلق بموجبه صرف رواتب الشهر الخامس البالغة نحو 900 مليار دينار من قبل وزارة المالية الاتحادية، لم يقابله تنفيذ كامل من قبل الإقليم، إذ سلّم الأخير 120 مليار دينار فقط من الإيرادات غير النفطية.
وأوضح الكاظمي خلال حديثه لـ"الاقتصاد نيوز"، أن هناك لجاناً مشتركة بين وزارة النفط الاتحادية ووزارة الثروات الطبيعية في الإقليم لمتابعة استئناف تصدير النفط بطاقة تدريجية تبدأ بـ 100 ألف برميل يومياً وصولاً إلى 400 ألف برميل، إلا أن الإقليم يبرر التأخير بالأضرار التي لحقت ببعض الحقول نتيجة الاستهدافات الأخيرة.
وأكد أن الشفافية والمصداقية مفقودة في هذا الملف منذ فترات طويلة، مشيراً إلى أن الحكومة قد تلجأ إلى نوع من المجاملة مع الإقليم على حساب المصلحة العامة، خاصة في ظل الأوضاع السياسية الحالية واقتراب موعد الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة، وهو ما قد يفرض ضغوطاً على رئيس الوزراء تؤخر تنفيذ الشروط المتفق عليها.
وبيّن الكاظمي أن تهريب نحو 250 ألف برميل نفط يومياً عبر الصهاريج إلى دول مجاورة ما يزال مستمراً، وتذهب عائداته إلى الأحزاب الحاكمة في الإقليم بدلاً من دخولها إلى الحسابات الرسمية، مؤكداً أن تصدير النفط بشكل أصولي عبر خط جيهان التركي سيحرم هذه الأطراف من مصدر مالي يومي كبير.
كما أشار إلى أن إيرادات منفذ إبراهيم الخليل الحدودي، الذي يسيطر عليه الإقليم دون إشراف الحكومة الاتحادية، تمثل مخالفة للدستور الذي ينص على أن إدارة المنافذ الحدودية من صلاحيات الحكومة الاتحادية حصراً.
تجدر الإشارة إلى أن إنتاج الإقليم الإجمالي من النفط يبلغ حالياً 280 ألف برميل يومياً، يخصص منها 50 ألف برميل يومياً لأغراض الاستهلاك المحلي.
وبحسب الاتفاق أيضاً، تُقدم حكومة الإقليم دفعة أولية تقدر بـ 120 مليار دينار (91.6 مليون دولار) عن حصة الخزينة الاتحادية من الإيرادات غير النفطية لشهر مايو/ أيار الماضي، على أن تتم تسويتها لاحقاً بعد استكمال عمليات التدقيق.
كما ينص الاتفاق على تشكيل فريق مشترك من وزارتي المالية وديواني الرقابة المالية في الجانبين (الاتحادي والإقليمي)، لتحديد حجم الإنفاق المتجاوز لحصة الإقليم، ووضع آليات معالجته وفق موازنة الأعوام 2023-2024-2025، على أن يُرفع التقرير خلال أسبوعين إلى مجلس الوزراء الاتحادي.
بدوره، حذّر الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، من أن رواتب موظفي الإقليم "أصبحت مهددة فعليًا"، نتيجة عدم قدرة الإقليم على الوفاء بالتزاماته المالية تجاه بغداد.
وقال المرسومي في منشور على صفحته الرسمية بـ"فيسبوك"، إن “الحزبين الكرديين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، يواجهان صعوبة في تسليم مبلغ 120 مليار دينار شهريًا، رغم الاتفاق المسبق مع الحكومة الاتحادية".
وأشار إلى أن "الاتفاق ينص على أن بعد صرف رواتب شهر أيار (الخامس)، ونشر جدول توزيعها من قبل وزارة مالية الإقليم، فإن التساؤل الجاد لدى المواطنين الآن: متى سيتم تسليم رواتب الشهرين السادس والسابع؟"، مبينًا أن "العجز في السداد قد يُعيد الملف إلى دائرة التعطيل السياسي".
وكان وزير النفط حيان عبد الغني، قد أكد، في وقت سابق، أن العراق يخسر 300 ألف برميل يومياً من حصته في "أوبك" بسبب إقليم كردستان.
ويظل العراق ملتزماً بزيادة طاقته الإنتاجية على المدى الطويل وتعزيز الإيرادات النفطية لتعويض خسائر سنوات الحرب والاضطرابات.
وفي حزيران الماضي، أشار رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني إلى أن تعليق الصادرات كبّد الإقليم خسائر تقدر بنحو 25 مليار دولار من الإيرادات.
بدوره، رأى الخبير بالشأن الاقتصادي، مصطفى حنتوش، أن ملف نفط إقليم كردستان لم يشهد حتى الآن حلولاً فنية أو مالية حقيقية، بل ظل محصوراً في إطار المعالجات السياسية.
وأوضح حنتوش خلال حديثه لـ"الاقتصاد نيوز"، أن الإقليم كان ملزماً سابقاً بتسليم ما بين 250 إلى 400 ألف برميل نفط يومياً وبيعها عبر شركة تسويق النفط الوطنية (سومو)، إلا أنه اتجه إلى عمليات تهريب، قبل أن تصدر المحكمة الاتحادية في العراق ومحكمة باريس قرارات أوقفت تلك العمليات.
وأضاف أن الحكومة لجأت بعد ذلك إلى تعديل الموازنة ورفع أسعار استخراج النفط في الإقليم، على أن يتم التصدير عبر تركيا بشكل رسمي، غير أن أنقرة رأت أن تصدير النفط العراقي لم يعد مجدياً، وركّزت على نفط الإقليم لانخفاض أسعاره، التي تتراوح بين 3 و12 دولاراً للبرميل.
وأكد حنتوش أن معالجة الملف تتطلب حلولاً فنية ومالية شاملة، وليس الاكتفاء بالحلول السياسية.
يذكر أن وزير النفط حيان عبد الغني، قد حدد الأربعاء الماضي، موعد استئناف تصدير الخام عبر ميناء جيهان التركي. وقال: "سيبدأ تصدير النفط عبر ميناء جيهان اليوم أو غداً. وبعد الاتفاق مع حكومة إقليم كردستان (شمال العراق)، سنصدر مبدئياً 80 ألف برميل نفط يومياً".
وفي 25 مارس/ آذار 2023، توقف تدفق النفط من العراق إلى ميناء جيهان، عقب قرار محكمة التحكيم الدولية في باريس بشأن صادرات النفط بين تركيا والعراق.
يذكر أن خط أنابيب النفط الخام بين العراق وتركيا تم تشغيله وفقاً للاتفاقية والبروتوكولات ذات الصلة المبرمة في 1973، والمجددة عام 2010. وبات هذا الخط رمزاً للروابط في مجال الطاقة بين البلدين، لكن الظروف الإقليمية المتغيرة، وأسواق الطاقة المتطورة، وتوقعات البلدين المتزايدة، حدَّت من قدرة الاتفاقية على تلبية الاحتياجات الحالية، واستلزمت أيضاً ترتيبات تجارية وقانونية وهيكلية جديدة.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام