تواجه السياسة الاقتصادية الكلية مشكلة على مستوى السيولة النقدية والتمويل، تؤثر بشكل مباشر على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والمعيشية.وتعود جذور هذه المشكلة إلى اختلالات هيكلية متراكمة تجعل من الصعوبة بلوغ استدامة الاستقرار المالي. اذ يلاحظ انقيد انخفاض قدرة القاعدة الإنتاجية قد حد من تراكم راس المال الثابت ومن اسهام ناتج القطاع الحقيقي غير النفطي لصالح الاعتماد شبه الكلي على عائدات النفط التي تشكل أكثر من 90% من إيرادات الدولة في سداد قيمة الاستيرادات.
ولأن دورة توازن الاقتصاد التقليدية في العراق شبه معطلة، فان ادارة السيولة ستكون مقيدة بإيرادات النفط. وهذه الحال تجعل من أداء الموازنة العامةعرضة لصدمات تذبذب أسعار النفط العالمية، ما تسبب في ازمات مالية فورية تظهر في صعوبة تمويل المشاريع فضلا عن تأخر دفع استحقاقات بنود الانفاق التشغيلي.
وأمام هذا التحدي تبرز جهود البنك المركزي للتعامل معه من خلال خطوات إصلاح النظام المصرفي وتعزيز قدرة المصارف على إدارة السيولة من خلال تعزيز الشمول المالي ورفع انتاجية القطاع المصرفي وتهيئة بيئة تنافسية صحية وتعزيز قدرة الجهاز المصرفي على مواجهة المخاطر.
ولاجل استدامة استهداف معالجة نقص السيولة والتمويل على المستوى الاستراتيجي، يتطلب إصلاحات فنية حقيقية ومناخ جاذب للاستثمار. اذن مستقبل السيولة مرهون بقدرة السياسة الاقتصادية الكلية على فك قيود الريع وتنفيذ إصلاحات جذرية في الإدارة المالية وتحفيز القطاعات الإنتاجية وتوجيه الانفاق.
لذا فان نقص السيولة يمثل إشكالية لظاهرة مركبة تتجاوز كونها نقصا مؤقتا في ضخ السيولة، لتعكس اختلالات هيكلية عميقة في البناء المالي والنقدي. مما يتطلب تحليلاً يستكشف جذورها الهيكلية كما في الآتي:
اتساع نطاق الانفاق الحكومي في اتجاهات متعددة من اخطرها استمرار التوظيف في مؤسساته وترهلها بشكل واضح وعدم ضغط الانفاق وترشيده وانضباطه بقيود بنود الموازنة الأساسية. ما يتطلب تعزيزا حقيقيا لنمو القطاع الخاص وتخليصه من "اثر المزاحمة" .
الطبيعة الريعية الأحادية للاقتصاد واعتماده في الغالب على عائدات الريع في الموازنة العامة، ومحدودية تنويع مصادر الايرادات خارج هذا القطاع. ما عزز من تبعية الموازنة لتذبذب ايرادات هذا القطاع ومن ثم إقرارها بعجز حكومي مستمر.
انخفاض مرونة الجهاز المصرفي تجاه تحفيز الادخار والايداع ومنه انخفاض قدرة المصارف العراقية على امتصاص السيولة من ايدي الافراد على شكل ودائع وادخارات لدى الجهاز المصرفي.
محدودية استقرار البيئة الاستثمارية بسبب البيروقراطية والفجوة القانونية يثنيان المستثمرين عن ضخ أموالهم فيقطاعات مهم ولاسيما مشاريع البنية التحتية التي من الممكن أن تعمل على تحقيق وفورات خارجية للنشاط الاستثماري وزيادة معدلات النمو في الناتج الحقيقي ورفع مستوى تكوين راس المال الثابت.
تداعيات نمو الاقتصاد غير الرسمي: اذ يقدر حجم الاقتصاد غير الرسمي بنحو 34% من الناتج المحلي في السوق الموازي للعملة اذ تتحكم بنحو 40% من تداولات الدولار مما يعزز من تسرب السيولة خارج دورة دخل الاقتصاد الرسمي المستهدف بتخصيصات الموازنة.
بلغت موازنة العراق لعام 2023 نحو 198.9 تريليون دينار، بعجز قدره 65 تريليون دينار، فيما وصلت موازنة 2024 إلى 211.8 تريليون دينار، بعجز بلغ 84 تريليون دينار. فيما خصص لموازنة عام 2025 التي نجمت عن انخفاض أسعار النفط العالمية. اذ يصدر العراق شهرياً نحو 100 مليون برميل من النفط، ويتغير سعره متذبذبا، اذ تراوح خلال العام الماضي بين 68 و72 دولاراً.خلال الأشهرالـ11 الأولى منعام 2024،بلغت إيرادات النفط 119 تريليون دينار بمعدل شهري يقارب 10 تريليونات ديناربشكل ثابت لدفع مستحقات الانفاق التشغيلي الامر الذي يعزز من نمو العجز الحكومي وانعكاسه في محدودية حجم السيولة لسد نفقات بنود الموازنة ومنه ارتفاع حجم الدين الحكومي بتزايد حجم العجز.
يستخلص مما سبق ان الاجراءات الفنيةعلى الرغم من أهميتها وسرعة الاستجابةفي القطاعين النقدي والمالي لعلاج مشكلة السيولة، تبقى اجراءاتمحدودة كاستراتيجية طويلة الاجل للتمويل المستدام، ما لم ترافقها إصلاحات تدريجية عميقة في القطاعين المالي و الحقيقي تعالج جذور الأزمة الهيكلية نحو إبتكار صياغة جديدة لإسلوب التمويل التنموي، تعمل على تطوير مسار توليد القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي والتخطيط لسياسات تطوير هذا القطاع وزيادة انتاجيته وصادراته مقابل تخفيض الاستيرادات بنفس النسبة.
ان مستقبل التمويل التنموي طويل الاجل في العراق مرهون بقدرة النظام الاقتصادي على التعافي من"انموذج الريع" إلى"انموذج التنويع".
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام