تواجه ألمانيا مرحلة حاسمة في سعيها لتحقيق الاستقلال الطاقوي عن روسيا، في خطوة تعد تحولاً جذرياً عن اعتمادها الطويل على الغاز الروسي. القرار الحكومي بمنع استيراد الغاز الطبيعي المسال الروسي يمثل تحدياً جديداً، يضاف إلى ضغوط ارتفاع أسعار الطاقة وتباطؤ النمو الاقتصادي، ليضع الاقتصاد الألماني في مواجهة بين تأمين الطاقة بكميات كافية والحفاظ على تنافسيته الصناعية.
ورغم الجهود المبذولة لتعويض الغاز الروسي ببدائل أخرى، تبقى التساؤلات قائمة حول مدى قدرة هذه البدائل على دعم استقرار سوق الطاقة الألماني، ودورها في تجنب المزيد من التأثيرات السلبية على المستهلكين والشركات، فهل تستطيع ألمانيا تأمين احتياجاتها الطاقوية بأسعار معقولة دون اللجوء إلى الغاز الروسي؟ أم أنها تحاصر نفسها بالغاز الروسي؟
وأصدرت وزارة الاقتصاد الألمانية تعليمات لشركة "دويتشه إنرجي تيرمينال" المملوكة للدولة بعدم قبول أي شحنات من الغاز الروسي بعد أن أبلغت الشركة برلين أن منشأتها للاستيراد في برونسبوتيل ستستقبل شحنة روسية يوم الأحد، حيث ذكرت الوزارة أن الأمر صدر لحماية "المصالح العامة العليا" للبلاد، وطالبت المشغل برفض شحنات الغاز الطبيعي المسال من روسيا حتى إشعار آخر، بحسب تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز".
وأوضح التقرير أن هذه الخطوة جاءت في وقت من المتوقع أن يصبح فيه الغاز الطبيعي المسال ورقة مساومة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب.
وكانت ألمانيا أكبر مستورد للغاز الروسي في أوروبا قبل بدء الأزمة الروسية الأوكرانية عام 2022، لكن روسيا خفضت شحنات الغاز إلى ألمانيا ودول أوروبية أخرى عبر خط أنابيب "نورد ستريم" ثم توقفت رداً على حظر الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي، مما دفع حكومة المستشار أولاف شولتز لإيجاد بدائل وبناء محطات لاستقبال شحنات الغاز الطبيعي المسال من مصادر أخرى.
وأكدت الوزارة الألمانية أن السماح بهذه الشحنة الروسية سيخالف الغرض الأساسي من بناء محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال، وهو "استقلال ألمانيا والاتحاد الأوروبي عن الغاز الروسي".
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فرضتا حظراً على الغاز الطبيعي المسال الروسي، إلا أن الاتحاد الأوروبي استمر في استيراد الوقود، حيث يأتي 20 بالمئة منه من روسيا بحسب شركة كبلر، وهي شركة بيانات السلع.
تجدر الإشارة إلى أن معظم واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي ذهبت إلى فرنسا وإسبانيا وبلجيكا بموجب عقود طويلة الأجل يصعب إلغاؤها وفقاً للشركات المعنية، ما لم يتم فرض حظر شامل، إلا أن ألمانيا لم تستورد الغاز الطبيعي المسال الروسي بشكل مباشر منذ غزو موسكو لأوكرانيا، وأن تعليمات الوزارة "تضمن استمرار هذا الوضع، طبقاً لتقرير الصحيفة البريطانية.
وذكر التقرير أنه على الرغم من قرار ألمانيا منع استيراد الغاز الطبيعي المسال مباشرة من روسيا، إلا أن شركة الطاقة الحكومية الألمانية "سيف" لديها عقد طويل الأجل لاستيراد الغاز من منشأة التصدير الروسية "يامال". وتوجه الشركة معظم إمداداتها إلى منشأة استيراد في فرنسا، وفقاً لشركة "كبلر" المتخصصة في بيانات السلع، ويتم إعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى حالة غازية هناك، ثم يتم ضخه في نظام خطوط الأنابيب الأوروبي المترابط.
خيارات بديلة
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أشار مستشار الطاقة الدولي عامر الشوبكي إلى أن ألمانيا كانت تعتمد بشكل كبير على إمدادات الطاقة الروسية قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فقد كانت روسيا توفر لألمانيا نحو 60 بالمئة من احتياجاتها من الديزل، وثلث وارداتها من النفط، ونصف وارداتها من الغاز، بالإضافة إلى نصف وارداتها تقريباً من الفحم.
واعتمدت ألمانيا بشكل كبير على خط أنابيب "نورد ستريم 1"، كما أنه كان يأتيها الغاز الروسي عبر خطوط أخرى مثل خط أنابيب يامال، وكانت تأمل بتلبية كامل احتياجاتها من الغاز عبر تشغيل "نورد ستريم 2"، إلا أن الأزمة بدأت قبل بدء تشغيله، وتعرضت شبكة "نورد ستريم" للتخريب خلال فترة الحرب، بحسب تعبيره.
ومع تصاعد العقوبات الاقتصادية ضمن الحزم التي كان يفرضها الاتحاد الأوروبي، اتجهت ألمانيا نحو خيارات بديلة، حيث توقفت عن استيراد الفحم والنفط من روسيا، لكنها لم تفرض عقوبات على الغاز الروسي إلا في وقت متأخر، وكانت العقوبات تتعلق فقط بإعادة تصدير الغاز. وفقاً للشوبكي الذي أوضح الشوبكي أن ألمانيا ما زالت تعتمد على الغاز المسال المستورد من روسيا لتلبية جزء من احتياجاتها، حيث يُقدَّر أنه يغطي ما بين 15بالمئة إلى 18بالمئة من الطلب.
وأشار مستشار الطاقة الدولي إلى أنه في حال استبدلت ألمانيا هذه الكميات المستوردة من الغاز الروسي المسال بغاز مسال من مصادر أخرى، كالولايات المتحدة، فإن هذا لن يعود بأي فوائد اقتصادية ملموسة على ألمانيا. فبالرغم من قدرة ألمانيا على تأمين إمدادات الغاز اللازمة، فإن الأسعار ستكون أعلى، ما يؤدي إلى ضغوط على اقتصادها المتأثر بالركود. وأضاف أن هذا التوجه يتناقض مع عقيدة الاقتصاد الألماني القائم على الصناعة والتصدير، حيث أدت هذه التكاليف المرتفعة إلى زيادة تكاليف الإنتاج الصناعي وتقليل تنافسيته.
استراتيجية استبدال الغاز الروسي غير فعّالة على المدى الطويل
ويرى أن استراتيجية استبدال الغاز الروسي غير فعّالة على المدى الطويل، إذ إنها قد تؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في ألمانيا وظهور تحديات جديدة، خاصةً مع الاعتماد على استيراد غاز مسال بأسعار أعلى من تلك التي اعتادت عليها ألمانيا قبل الحرب.
ولفت إلى أن المستهلكين الألمان يتأثرون بشكل كبير بالتضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة، فرغم انخفاض أسعار الغاز مؤخراً، إلا أنها لا تزال أعلى من المستويات التي كانت عليها قبل الأزمة. هذا الارتفاع في التكاليف أدى إلى إغلاق العديد من المصانع والشركات، ما أسفر عن تراجع اقتصادي واضح وتراجع في الناتج المحلي الإجمالي وضعف في سوق العمل.
وأضاف الشوبكي: "إن الأزمة انعكست على الحكومة الألمانية الحالية بقيادة المستشار شولتز، إذ يعاني النموذج الاقتصادي الألماني من صعوبة الاستمرار في ظل أسعار طاقة مرتفعة. فاعتماد ألمانيا على الغاز المسال المستورد عوضاً عن الغاز الروسي الرخيص الذي كان يصل عبر الأنابيب يزيد من التكاليف ويضعف القدرة التنافسية للبضائع الألمانية.
المشكلة ليس بتوفر إمدادات الغاز بل بسعره المرتفع
واختتم الشوبكي بالإشارة إلى أن المشكلة لا تكمن في توفر إمدادات الغاز لألمانيا، وإنما في ارتفاع تكاليفه، مؤكداً أن الاقتصاد الألماني بسبب ارتفاع أسعار الطاقة على مدى العامين المضي والحالي، هو الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي شهد انكماشاً في الناتج المحلي الإجمالي وتراجعاً في أدائه الاقتصادي، وقال: "التراجع لن يقف عند هذا الحد، بل سيعاني الاقتصاد من تراجع خطير خاصة مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى السلطة وتوعده اقتصادات الدول الحليفة التي يختل ميزانها التجاري مع أميركا بفرض رسوم بين 10 الى 20 بالمئة. وتعتبر ألمانيا الشريك التجاري الخامس للولايات المتحدة.
من جهته، قال الدكتور ممدوح سلامة خبير النفط العالمي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الاقتصاد الألماني يعاني بشدة من تبعات القرارات المتعلقة بالطاقة التي اتخذتها الحكومة الألمانية. فقد اعتمد الاقتصاد الألماني والأوروبي لعقود طويلة على إمدادات الغاز الروسي الرخيص والوفير. إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية دفعت ألمانيا إلى قطع هذه الإمدادات، مما أدى إلى أزمة طاقة حادة".
تخبطت السياسة الألمانية في مجال الطاقة بين قرارات متضاربة. فبعد إغلاق محطات الطاقة النووية التي كانت تغطي 15 بالمئة من احتياجاتها الكهربائية، لجأت ألمانيا إلى الفحم، مما أدى إلى زيادة التلوث وارتفاع الانبعاثات السامة. اضطرت بعد ذلك إلى إعادة تشغيل هذه المحطات مجدداً، بحسب تعبيره.
سعر الغاز الأميركي المرتفع يفاقم الأزمة
وأوضح أن ارتفاع فاتورة استيراد الغاز الأميركي المسال فاقم أزمة الطاقة الألمانية، هذا الارتفاع، إلى جانب ارتفاع تكاليف الإنتاج، دفع العديد من الشركات الألمانية الكبرى إلى نقل عملياتها إلى دول أخرى تتمتع بأسعار طاقة أرخص.
وأضاف الدكتور سلامة: "يبدو أن الحل الوحيد أمام ألمانيا لإنقاذ صناعتها وتعافي صادراتها يكمن في العودة لاستيراد الغاز الروسي. هذا الأمر يتطلب بالضرورة رفع الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على روسيا، وهو ما يرتبط بشكل مباشر بمسار النزاع الأوكراني الروسي. فالأزمة الطاقوية الأوروبية تسلط الضوء على محدودية مصادر الطاقة التقليدية، وتدفع الدول إلى البحث عن حلول طويلة الأجل لضمان أمنها الطاقوي".
وأكد خبير النفط العالمي أن هذا التحول أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، مما أثر سلباً على الصناعة الألمانية، وخاصة صناعات السيارات والأدوية والمواد الكيماوية. وأشار إلى أن ألمانيا فقدت مكانتها كصانع عالمي، وانخفضت صادراتها بشكل كبير، خصوصاً إلى الصين.
تدني تنافسية الصناعة الألمانية
وأوضح الخبير أن الاعتماد على الغاز الأميركي المسال بأسعار مرتفعة، والاتفاقيات طويلة الأجل التي تُفرض على ألمانيا، ستزيد من الضغوط على ميزانيتها، لافتاً إلى أن الاقتصاد الألماني يشهد انكماشاً حاداً، وأن النمو المتوقع هذا العام لا يتجاوز 0.2 بالمئة، وهو رقم متدني للغاية. وأكد أن مستقبل الصناعة الألمانية وصادراتها يعتمد بشكل كبير على عودة العلاقات الطبيعية مع روسيا في مجال الطاقة.
واعتبر أن ألمانيا تحاصر نفسها في هذا المأزق، حيث أن الاعتماد الكبير على واردات الغاز المسال الأميركي، بأسعاره المرتفعة، يجعلها في وضع اقتصادي أكثر سوءاً. فارتفاع أسعار الطاقة بشكل عام، وخاصة الغاز، يؤثر سلباً على التنافسية الصناعية الألمانية ويجعلها أقل جاذبية للاستثمارات.