المناظرات العامة : بين الحياد والتحيز الفكري

لن انسى الدرس الاول في حياتي الجامعية التي عرج فيها استاذ مادة الإقتصاد على عبارة (debate او مناظرة) ليبرهن لنا نحن الجيل الجديد قبل اقل من ستة عقود ان العلوم تطورت عبر التاريخ بالمناظرات الموضوعية وهو جزء مهم من دايلكتيك الحياة وتقدمها.
والمناظرة ماهي الا مناقشة بين أشخاص يعبرون فيها عن آراء مختلفة حول شيء ما. 
اذ يمكن أن تكون المناقشة حدثًا منظمًا، أو مناقشة غير رسمية بين شخصين أو أكثر، أو مناقشة عامة تشمل العديد من الأشخاص.
ولم تمضِ الا اياماً معدودات ليطلعنا عالم الاقتصاد ابراهيم كبه معرجاً على مفهوم تناول فيه التحيز Bias في المناظرات او حتى المناظرات في الاوساط الجامعية التي يشتد زخمها في الفضاء الاجتماعي الإديولوجي -The Ideological 
‏Bias Debate 
او كما أسماه بالتحيز الإديولوجي ، مؤكدا ان الحياة هي بطبيعتها متحيزة.
وهنا يشير الكاتبان on A. Shields, Joshua M. Dunn Sr.
في كتابهما الصادر عن جامعة أوكسفورد في العام 2016 والموسوم Passing on the Right: Conservative Professors in the Progressive University Get access

اي : التجاوز او المرور على اليمين: أساتذة محافظون يخترقون الجامعة التقدمية . ويستشف من الكتاب انفاً ان ثمة صراع تولده المناظرات المتحيزة في الوسط الجامعي الامريكي .
ففي سياق موضوع (المناظرة المتحيزة- The biased debate ) يبرز عالم الاجتماع النفسي ايرفنك كوفمان Erving Coffman الذي وسم فيها العاملين من اليمين المحافظ في الوسط الجامعي او الأكاديمي :
بالهوية المهنية المدللة-spoiled professional identity.”
متناولاً مفهوماً مثيراً في الحياة الاكاديمية للرأسمالية والذي يطلق عليه بتيار المحافظين الجامعيين .
كما يرى كوفمان أن الناس يضبطون سلوكياتهم لإعطاء انطباعات معينة للآخرين (وهذا ما يعرف بإدارة الانطباع) وأن السلوك يتعدل أيضًا اعتمادًا على ما إذا كنا في مكان عام أو خاص. ومن هنا تبرز اهمية المكان العام في توجيه الراي العام كما تناولها المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقاله الاخير والتي سنعرج عليها بلا شك .
كما يستعرض الكاتبان Jon A. Shields, Joshua M. Dunn Sr. في كتابهما انفاً البحوث التي تناولت التحيز السياسي في الأوساط الأكاديمية والعداء المتزايد صوب اليمين في المؤسسات التربوية الجامعية في الولايات المتحدة ( على حد قولهما ). مؤشرين أفضل الأدلة التي تبرهن إلى أن التمييز في نقاط التوظيف والترقية لا يفسر بالتأكيد الا هيمنة الاحرار الليبرالين او اليسار على الأوساط الأكاديمية. 
ومشيرين الى أدلة كثيرة إلى أن المحافظين يواجهون تمييزاً حقيقياً، وخاصة أولئك المنتمين إلى اليمين الثقافي. 
و بغض النظر عن كيفية تفسير المرء للمناقشة حول التمييز السياسي المنهجي في الأوساط الأكاديمية، فإن الأساتذة المنتمين إلى اليمين لابد وأن يتعاملوا مع وصمة العار ( كما يقال) التي تلحق بهم نتيجة لانتمائهم إلى التيار المحافظ ــ أو ما أسماه عالم الاجتماع إيرفينج جوفمان "الهوية المهنية المدللة".
ويعترف العديد من الأساتذة بإخفاء أنفسهم قبل الحصول على الوظيفة الدائمة من خلال التظاهر بأنهم ليبراليون. ويقول بعض الأساتذة المحافظين صراحة إنهم تعرضوا لمعاملة سيئة للغاية بسبب سياساتهم، وخاصة أولئك الذين خاضوا غمار التخصصات المسيسة أو عبروا عن آراء محافظة ثقافياً. وعلى الرغم من التحديات الحقيقية. يقول الكاتبان Shields and Dune Sr بان الاساتذة الذين أجريت معهم المقابلات من أجل اتمام الكتاب في اعلاه يظهرون أن المحافظين قادرون على البقاء والازدهار في بعض الأحيان في واحدة من أكثر المهن تقدمية في أمريكا. وهذا يعني أن الليبراليين والمحافظين بحاجة إلى إعادة التفكير في مكانة المحافظين في الأوساط الأكاديمية (على حد قول الكاتبين ) . 
ويرى الكاتبان انه يجب على الليبراليين أن يسلكوا الطريق الصحيح من خلال أن يصبحوا من دعاة التنوع الأكثر مبدئية، خاصة وأن الأساتذة المحافظين نادراً ما يكونون مغلقي الأفق أو مقاتلين في حرب يمينية ضد الجامعة (على حد قولهما ) . 
في الوقت نفسه، يجب على المحافظين المنتمين إلى الحركة اليمينية أن يخففوا من حدة حربهم الجدلية ضد الجامعة، خاصة أنها تساعد عن غير قصد في ترسيخ حكم التقدميين (المضطرب )للأوساط الأكاديمية.
ومن ذلك يتضح ان التحيز الإديولوجي اوغيره في مناظرات الفضاء الرقمي الراهن هي قضية معقدة تؤثر بشكل كبير على كيفية تشكيل الرأي العام وتبادل الأفكار. 
اذ يرى المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم عنوانه احتكار المجال العام في العراق ، موضحاً بهذا الشان مشكلات العصر الرقمي الافتراضي الراهن في ولادة راي عام متحيز هنا وهناك قائلاً :(( …. بيد ان دخول وسائل التواصل الضخمة واضطلاعها المباشر وغير المباشر في تصنيع الاراء والاتجاهات قوض قدرة الافراد على التفكير النقدي المستقل ،كونها تقدم قناعات وصور وووثائق تختزل الواقع وقد تقزم الحقائق وتحرف الانتباه وتقدم اولويات ليست هي الاولويات الحقيقية)).
وهكذا امسى التحيز في المنصات الرقمية ولاسيما في العديد من منصات التواصل الاجتماعي تحتوي على خوارزميات تفضل إظهار المحتوى الذي يتماشى مع اهتمامات المستخدمين السابقة، مما يؤدي إلى إنشاء فقاعات إعلامية تعزز تحيزاتهم القائمة وتقلل من تعرضهم لوجهات نظر مختلفة .
فضلاً عن ان ظاهرة التحيز في المناظرات الرقمية، كثيراً ما تؤدي إلى تهميش أصوات معينة أو تقليل مصداقيتها، خاصة عندما تكون هذه الأصوات من الأقلية أو تتعارض مع الأغلبية السائدة في النقاش.
ختاما، فان احتكار المجال العام كما يقول المفكر ابراهيم العبادي سواء في العراق اوغيره هو ترسيخ لظاهرة تطورت في (الاقتصاد السياسي للراسمالية ) والتي يطلق عليها -عصر راسمالية الاستطلاع The Age of 
‏Surveillance Capitalism
وهو الموضوع الذي تصدت اليه الاستاذة شوشونا زوبوف
Shoshana Zuboff
من جامعة هارفرد في كتاب اخذ العنوان اعلاه و الصادر في العام 2018 .
اذ يقدم كتاب عصر راسمالية الاستطلاع تحليلاً نقدياً للاقتصاد الرقمي ، حيث يتم استخراج البيانات الشخصية وتحويلها إلى أموال نقدية دون موافقة المستخدم بما يؤدي الى اضعاف الخصوصية الشخصية. ويتناول الكتاب الآثار المترتبة على مثل هذه البيئة على الديمقراطية والاستقلالية الفردية والخبرة الإنسانية.
وهنا ينتقل المجتمع من (التحيز الرقمي ) الى (الاغتراب الرقمي digital alienation كما ارى ذلك شخصياً ) ولاسيما في المناظرات وصناعة الراي العام المغترب . 
ختاماً ، فمع تزايد الاعتماد على المنصات الرقمية كمصدر رئيسي للمعلومات وتبادل الآراء، يصبح من الضروري أن يكون المستخدمون على درجة عالية من الوعي بهذه الأنماط من التحيز، وأن يسعوا للحصول على معلومات من مصادر متنوعة وموثوقة، بالإضافة إلى تطوير التفكير النقدي في تقييم المحتوى الرقمي .


مشاهدات 4148
أضيف 2024/08/26 - 9:08 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 8274 الشهر 65535 الكلي 11506675
الوقت الآن
الخميس 2024/11/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير