بعد استعادة الحكومة نفوذها على مواردها، يشهد مناخ السياسة الاقتصادية الكلية، في الآونة الاخيرة تطورا في حركة التصحيح الحكومي تجاه البناء والاعمار و بلورة الدورالتنموي للدولة، ولاسيما في قطاع الخدمات والتشغيل وخطوات مركزة في تعديل مسار الادارة العامة بغية تحريك ما جمد في الفترة السابقة وتفعيل المشاريع المتلكئة والشروع في اخرى جديدة .
وبما ان السياسة الاقتصادية تستهدف الدخول في تعديل التوازن الاقتصادي لاجل تعميق الرفاهية للفرد والمجتمع، فان السؤال المهم في هذه المرحلة عن اي الاتجاهات التنموية التي ينبغي ان تسلكها الحكومة الحالية كي تمضي قدما باعادة ترتيب الاولويات الاستثمارية والتشغيلية والقيام بعملية التصحيح واعادة البناء الى غايتها المنشودة ؟وفي اي قطاع ينبغي البدء؟
لما كانت عمليات التنمية تتعاطى مع تحليل الكلفة والايراد في تخصيص الموارد الانتاجية فان تحقيق النمو المتواصل يتطلب التعاطي مع الاولويات المؤسسية والاجتماعية والسياسية والثقافية لانجاز التحول الهيكلي في ظل الدور الحكومي المنسق فيما بين القرارات الداعمة لتحقيق الرفاهية والحد من عدم المساواة.
غير ان الكثير من مفاصل الاقتصاد العراقي تقع ضمن ظروف الاحتكار و خارج توازنات العرض والطلب في العديد من النشاطات والفعاليات المهمة، مما يعيق تطبيق نماذج التنمية على الواقع الاقتصادي العراقي الذي يعاني من الاختلال الهيكلي في الانتاج والطلب ، لذا لابد لصانع القرار الحكومي ان يتبع منطق الواقعية في توفير الحلول الممكنة والتعاطي مع هذا الواقع غير المرن بالممكن من الحلول والعلاجات المستهدفة لتهيئة الارضية المناسبة للاصلاح الهيكلي فيما بعد ، بعبارة اخرى ان حركة التصحيح الحكومي في الواقع الاقتصادي العراقي لابد ان تنطلق ابتداءا عبر واحد من المحورين الاساسيين الآتيين:
الاول: التعاطي مع اشكالية الواقع الاقتصادي المشوه من خلال الدخول في شبكة شائكة من العلاقات الاقتصادية التي من الممكن ان تؤدي الى اصلاح الاختلال الهيكلي واعادة التوازن الكلي ، توصف هذه العلاقات بانها طويلة الاجل وتحتاج الى مدة زمنية طويلة تستبطن تعافي جميع القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية والنقدية والمالية، وضمن افتراضات غير مرنة ، وفي ظل القيود الهيكلية والمؤسسية والسياسية المؤدية الى الانخفاض الحاد في المرونة الانتاجية ونقص السلع الوسيطة وانعدام العمق المالي وغياب سياسات الرقابة على الواردات في ظل تشوه السياسة التجارية ، وضعف امكانيات النقل والتوزيع ، وندرة العمل الماهر ، كلها عوامل تحد من قدرة الهيكل الاقتصادي على الاستجابة لنموذج السوق ودوره في اجراء التعديلات اللازمة للتنمية والنمو .حيث ان مشاكل التخصيص تعيق مثلا ، اعادة صياغة سياسة صناعية تجارية تستهدف بناء صناعة كثيفة العمل منخفضة الكلفة التصديرية ومنافسة في نشاط الصناعات الخفيفة، كالنسيج والالبسة والمنتجات الغذائية وصناعة السجاد والصناعات الجلدية وقطاع الصناعات الكيمياوية والدوائية وماشابه ذلك من الصناعات الاستهلاكية المهمة لتلية الطلب الداخلي وتلبية قطاع التصدير لتعديل الميزان التجاري. لذا لايمكن اختيار هذا المحور حاليا لاجراء اعادة الترتيب او التصحيح طويل الاجل.
الثاني: تأجيل الاول والتعاطي مع معطيات اشكالية الهيكل الاقتصادي من خلال التخطيط للتنمية الشاملة عبر القطاع الرائد والمقصود به ( قطاع النفط) انطلاقا منه الى تصحيح التشوه في الصناعة النفطية ،عبر التركيز العمودي لفعاليات الصناعة النفطية، المعزز لبنود الميزانية السنوية والمرتبط عضويا بالتخصيصات المالية للموازنة العامة ضمن الاجلين الزمنيين القصير والمتوسط ، وتعميق الاستثمار غير النفطي بتأسيس صندوق سيادي لاستثمار الفوائض النفطية بشكل مستدام في مشاريع انتاجية تدر عائدا لاعادة التوزيع المادي والاجتماعي الذي يصب في قاعدة النمو طويل الاجل.
لذا يستهدف الاسلوب المقترح بلوغ التخصيص الامثل للريع النفطي عبر خطوط التشابك الصناعي فيما بين القطاع الرائد والقطاعات الاخرى لازالة اثر الاستبعاد الذي يمارسه هذا النشاط على باقي القطاعات الاقتصادية، وتعزيز الدور الاقتصادي والاجتماعي لهذه القطاعات وربطها بالقطاع المذكور لما له من الاثر في توجيه الانفاقين الحكومي والخاص نحو الاستثمار في البنى التحتية والاجتماعية وانظمة الصحة والتعليم الضرورية لعملية التنمية، ضمن حدود الاجل القصير الذي يعبر غالبا عن مدى فاعلية السياسة الكلية ومضمونها الاقتصادي الكلي .اذ لابد من التخطيط لتوجيه الموارد المالية نحو اعادة ترتيب اولويات المشاريع قصيرة الاجل والتي لها تاثيران الاول آني للتصحيح قصير الاجل والثاني تراكمي في سياق اولويات التنمية، لما تضيفه من وفورات خارجية وانعكاسات على واقع الاستثمارات طويلة الاجل.
وفي سبيل اعادة تشكيل محور تنموي قادر على الافادة من آليات الادارة المالية المستدامة لقطاع الاستثمار ، تتضح اهمية ان تسلك الحكومة هذا الاتجاه من التنمية من خلال التخطيط لقطاع النفط باعتباره القطاع الرائد وتنميته عموديا عبر ايلاء الاهتمام بالنشاطات الداخلية المرتبطة به كالصناعات التحويلية في العديد من القطاعات الاقتصادية كقطاع الانشاء والتعمير وقطاع خدمات الطاقة الكهربائية ، والعديد من الصناعات ذات العلاقة بالطلب الاستهلاكي الداخلي وما من شانه ان يخفف من حجم الاستيراد ، هذا من جهة ، من جهة اخرى لابد ان ترسم الحكومة خطة للتنمية لاستقطاب نشاط القطاع الخاص لتحقيق الاتساق في النمو القطاعي للرفع من نسبة الاسهام في الناتج المحلي الاجمالي.