صدر في شهر كانون الأول/ 2022 الكتاب الموسوم (إدارة البنك المركزي العراقي من هامش الماضي إلى متن المستقبل) لمؤلفه الأستاذ علي محسن العلاق، ويناقش الكتاب بشكل علمي وتحليلي مرحلة مهمة من التحديات التي عاشها البنك المركزي العراقي في أحلك الظروف الاستثنائية التي عانى منها العراق اقتصادياً وأمنياً وسياسياً للفترة من (2015-2020)، وهي الفترة التي تصدى فيها للمسؤولية بعد تكليفه محافظاً للبنك المركزي العراقي.
يتناول العلاق بالتحليل العلمي والاقتصادي والنقدي أبرز التحديات التي واجهت السياسة النقدية ووقفت عائقاً في تحقيق الاستقرار في النظام المالي والنظام النقدي وعلاقة ذلك بالواقع الاقتصادي للبلاد وريعيته واعتماده بشكل رئيسي على الإيراد النفطي وتأثره بالمتغيرات الاقتصادية الدولية خصوصاً عدم الاستقرار في أسعار النفط والعجز في الإيراد غير النفطي على المستوى المحلي والعجز في ميزان المدفوعات والموازنات العامة، وتحمل البنك المركزي مواجهة الأزمات التي واجهت اقتصادنا الوطني وسد العجز في الموازنات العامة بإعادة خصم حوالات الخزينة التي أصدرتها المالية وتأثيرات ذلك على انخفاض الاحتياطيات النقدية الأجنبية إلى حدود 43 مليار دينار في 2016.
لقد تضمن الكتاب مقدمة وتسعة فصول، تناول الفصل الأول التخطيط الاستراتيجي وإدارة التغيير حيث أن الأهداف التي استجدت في البنوك المركزية هو التحول من الرقابة على أساس القواعد إلى الرقابة المبنية على المخاطر والانتقال من هدف محاربة التضخم إلى تحفيز النمو الاقتصادي، وعرض الفصل الثاني الوظائف والأدوات والبرامج والمعايير التي تهدف إلى تحقيق الهدفين أعلاه وتطبيق معايير الرقابة التحوطية، وتضمن الفصل الثالث إدارة احتياطيات البنك المركزي الأجنبية التي تؤدي إلى مجموعة من الأهداف الأساسية في تعزيز الثقة في السياسة النقدية وسعر الصرف، وتضمن الفصل الرابع ملامح ومحددات ومؤشرات استقلالية البنك المركزي، وتعرض الفصل الخامس إلى موضوع بيع العملة الأجنبية عبر نافذة البنك المركزي وكذلك المبررات والحقائق والظواهر الاقتصادية والقانونية والمالية والتجارية والنقدية التي تقف وراء نافذة بيع العملة.
كما أوضح الفصل السادس ظاهرة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في الخلفية والمخاطر والقنوات والمصادر والظروف الصعبة التي عاشتها إدارة البنك المركزي في تصفية ملاحظات مجموعة العمل المالي FATF وتغيير تصنيفه من القائمة الرمادية إلى المتابعة الاعتيادية، وتناول الفصل السابع عرضاً إجمالياً عن القطاع المصرفي في العراق باعتباره المكون الأساس للنظام المالي وخاضعاً لإشراف ورقابة البنك المركزي، كما تناول الفصل أيضاً المشاريع الاستراتيجية المنجزة لتنظيم وتحفيز القطاع وآليات تعزيز الاستقرار المالي والإشارة بشكل واضح إلى الائتمان المصرفي وأهميته القصوى في تحقيق الاصلاح الاقتصادي والمصرفي، وقدم الفصل الثامن عرضاً للجهود الكبيرة التي امتدت خمس سنوات (2015-2020) مع صندوق النقد الدولي ليكشف عن محاور وظواهر أساسية شديدة الصلة بالاقتصاد العراقي وبالمالية العامة بشكل خاص وماذا تحقق في إطار الاصلاح الاقتصادي والانضباط المالي، وبيّن الفصل التاسع بشفافية عالية ملامح عن أموال العراق قبل 2003 وبعده بشكله الإجمالي، كما تضمن الفصل ديون العراق قبل 2003 وبعده وموجودات البنك المركزي ولما جرى في خزينه من العملة الأجنبية، كما تضمن الفصل مطابقة أموال العراق لفترة من 2004 الى 2019 وطبيعة العلاقة بين الإيراد الكلي والانفاق الكلي.
ومن خلال قراءتي بتمعن شديد لما تضمنه الكتاب في تسعة فصول تحليلية لمجموعة من المواضيع ذات الصلة بالسياستين النقدية والمالية وهما الركنان الأساسيان للسياسة الاقتصادية للعراق، وجدت أن الأستاذ العلاق قد بذل جهداً فكرياً واقتصادياً كبيراً في عرض تشخيصي دقيق لأبرز التحديات والإنجازات والتطورات البنيوية والهيكلية والتقنية في إدارة البنك المركزي والتي كان لها دور أساسي ومهم في رسم خارطة الطريق للعهد الخامس الجديد للبنك المركزي الذي بدأ في عام 2015 وما يزال مستمراً وبنهج وخطى ثابتة لتحقيق أهداف السياسة النقدية ودعم وتحفيز الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقرار المالي الناجز وهو الهدف المركزي للاصلاح الاقتصادي الشامل والجذري.
وقد تناول الأستاذ العلاق التحديات والتداعيات التي واجهتها السياسة النقدية بجهود واضحة ومتميزة لكوادر البنك المركزي بروح وطنية عالية وحرص شديد على إجراء التغيير في البرامج والسياسات التي نقلت البنك المركري من أساليب العمل في القرن العشرين إلى أساليب العمل في القرن الواحد والعشرين بكل ما تحمله من إصرار على تحقيق الإنجازات التي تحققت على جميع المستويات وفي كل المجالات المصرفية والفنية والتقنية والإدارية.
وناقش الكتاب في 554 صفحة الإجراءات والسياسات العلمية والاقتصادية والنقدية التي اعتمدها البنك المركزي في تحقيق الاهداف الواردة في قانونه 56 لسنة 2004 ، ويلاحظ من ما ورد بالكتاب أن البنك المركزي العراقي قد أثبت أنه مؤسسة اقتصادية مالية سيادية رصينة وهو المختص برسم مسارات وسياسات تطبيقات السياسة النقدية والإشراف والرقابة على القطاع المصرفي ويعتبر المستشارالمالي للحكومة وكان دوره أساسياً في إدارة العملية الاقتصادية في العراق بعد التغيير في عام 2003، وبشكل خاص في فترات ارتباك الرؤية وعدم وضوح السياسات المالية وضعف التنسيق مع السياسة النقدية واختلاف السياسات الاقتصادية وعدم وضوح المنهج الاقتصادي للبناء الجديد للاقتصاد الوطني، الا ان البنك المركزي العراقي والقطاع المصرفي خطا خطوات تطور كبيرة باتجاه الانتقال من النشاط الصيرفي إلى النشاط الحقيقي والتنموي خصوصا خلال السنوات التي بحثها الكتاب.
حيث تحققت إنجازات كبيرة في مجال الحد من التضخم الذي كان يعاني منه العراق والوصول به إلى معدلات جيدة للسنوات 2107-2019 بلغت أقل من 2% كما تشير البيانات والمؤشرات المالية، واستطاع المحافظة لعدة سنوات على سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي بشكل متوازن ضمن المعدل المستهدف بالرغم من التذبذب والتباين صعوداً ونزولاً تبعاً للظروف الاقتصادية الصعبة الأزمة المالية والاقتصادية بسبب الانخفاض في أسعارالنفط والحرب على الإرهاب والمضاربات التي تحدث في الأسواق، حيث يلاحظ أن التدخل اليومي للبنك المركزي العراقي في إدارة عملية البيع للعملة الأجنبية في ضوء معطيات السياسة النقدية بالرغم من الانتقادات والملاحظات الكثيرة لكنها ساهمت مساهمة كبيرة في المحافظة على الاستقرار النقدي ومواجهة أية كميات يحتاجها السوق لغرض تمويل التجارة للقطاع الخاص وتلبية احتياجات وزارة المالية من العملة المحلية.
ولمواجهة هذه الانتقادات أصدر البنك تعليمات وضوابط تنسجم مع المعايير الدولية ومتطلبات أنظمة وقواعد الامتثال من خلال تطبيقه للمنصة الالكترونية للتحويل الخارجي والسيطرة على الخروق التي كانت تحدث والتركيز على سلامة ومصداقية عمليات التحويلات الخارجية بالتدقيق والمراجعة والتقييم وتصنيف المصارف لأغراض نافذة بيع العملة بهدف السيطرة على حركة العملة الأجنبية والحد من التصرف بها بخلاف الأهداف الاقتصادية المحددة لتطبيقات السياسة النقدية، حيث ان التعامل ببيع العملة الأجنبية يعتبر من أكبر عمليات السوق المفتوحة في السيطرة على مناسيب السيولة المحلية ووضع الفائض النقدي في مساراتة السليمة وهو مؤشر اقتصادي جيد أن يتم استقرار سعر الصرف بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي مر بها العراق.
كذلك استطاع البنك المركزي العراقي الاحتفاظ باحتياطي نقدي أجنبي جيد يبلغ حالياً بحدود 110 مليار دولار بالرغم من عدم استقرار أسعار النفط العالمية وظروف الركود الاقتصادي، ومع ذلك فقد شكل غطاء أميناً للدينار العراقي ولتغطية التجارة الخارجية وفقا للمعدل القياسي المعتمد عالمياً، ان الإجراءات الاقتصادية والمالية المحسوبة والجريئة التي قام بها البنك المركزي وتجربته الناجحة في تقديم الدعم المتواصل للاقتصاد العراقي إضافة إلى مبادرته بتنشيط الدورة الاقتصادية وتخصيصه ستة تريليونات دينار لتمويل وتشغيل المشاريع الصغيرة والمتوسطة في قطاعات الإسكان والزراعة والصناعة في حينه والتي تطورت إلى 18 تريليون دينار حالياً ودعم سيولة المصارف وتحقيق هدفين اقتصادي واجتماعي في آن واحد، أن كل ذلك رافقه تطورات بنيوية وهيكلية تطويرية في كافة دوائر البنك الاختصاصية والنوعية والتركيز على إدارة الجودة الشاملة والتطوير المؤسسي واعتماد المعايير الدولية والالتزام بقواعد وأنظمة الامتثال وإدارة المخاطر ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتوعية المصرفية والتطورات التقنية في أنظمة المدفوعات والدفع الالكتروني وتكنلوجيا المعلومات.
لذلك فإن هذا الكتاب الذي هو توثيق شفاف وتحليلي ومحايد ومهني ينطلق من الحرص الوطني للأستاذ العلاق على تسليط الضوء على النقاط والمناطق المضيئة التي برزت على السطح وحققت الصمود الاقتصادي في أقسى أزمات اقتصادية ومالية مر بها بلدنا في تاريخه الحديث، والكتاب بفصوله التسعة يؤشر جهود وشفافية وإفصاح البنك المركزي العراقي، وهو وثيقة من وثائق العمل الوطني في المجال الاقتصادي في العراق يوثق مرحلة مهمة من مراحل الصمود الاقتصادي ويهدف إلى تحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي، وهو يصلح لأن يكون أحد المناهج الدراسية للكليات التي لديها أقسام مالية ومصرفية، وهي دعوة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي لاعتماده ضمن مناهجها الدراسية المتخصصة بالمالية والمصارف.