تعد السياسة النقدية الذراع الاقتصادية الكلية الرئيسة التي يتم من خلالها ضبط التوازن النقدي الكلي من طريق صياغة البنك المركزي اهدافه التشغيلية لتحقيق استقرار الأسعار، عبر ادواته الكمية منها والنوعية، لتمرير اجراءاته الرقابية على البنوك التجارية وذلك بالتقليص من العرض النقدي والحد من الضغوط التضخمية، والاستمرار في الحفاظ على استقرار مستويات التضخم المنخفض، عبر نظام سعر الصرف الثابت .
ولأهمية نظام سعر الصرف الثابت المتبع من قبل السلطة النقدية في العراق منذ سنين عدة، لابد على الجهات ذات العلاقة المباشرة ان تعمل على حماية هذا النظام من انخفاض فاعليته كونه يشكل الضمانة الموضوعية في واقع الاقتصاد الريعي للحفاظ على مستويات الدخل الحقيقي عند المخطط لها وضمن مستوى الامان الاجتماعي المطلوب من الحكومة.
ومن تتبع الوقائع الاقتصادية الراهنة يلاحظ على مستوى السياسة النقدية في العراق، وبعد استجابة الدور الرقابي للبنك المركزي للمتطلبات الدولية في ادارة سعر صرف الدولار ومكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ومنه الحضر لنشاط بعض المصارف من التعامل بالدولار، كونها مدانة دوليا بما تديره من عمليات مشبوهة لتهريب العملة، وتبييض الأموال ومن ثم فان منع هذه المصارف من التعامل بالدولار قد أدى الى انخفاض حاد في عرض الدولار، فبعد أن كان المركزي يبيع أكثر من 280 مليار دولار، أصبح يبيع نحو 75 مليون دولار، ان معظم هذه المبيعات تذهب على شكل حوالات للخارج لتمويل التجارة الخارجية، فيما بلغ سعر بيع الدولار المحول لحسابات المصارف في الخارج، اضافة الى البيع النقدي 1460 دينارا لكل دولار. انعكس في ارتفاع الطلب على الدولار لاغراض الاستيراد، مما جعل من سعر الصرف السوقي يرتفع بشكل واضح.
وبالانتقال الى نظام سعر الصرف الثابت ، فقد نتج من انخفاض عرض الدولار ارتفاع اسعار صرف الدولار بشكل مثير للقلق، فتخطي سعر صرف الدولار الواحد من 1460 حدود 1500 دينار انما ينبئ بشكل خطير الى تراجع الحسم في اجراءات السياسة النقدية تجاه معدلات التضخم الناجمة عن الارتفاعات المتواصلة منذ اكثر من أسبوعين في الأسواق المحلية (على الرغم من ارتفاع رصيد الاحتياطيات الاجنبية الى عتبة 90 مليار دولار) ، بحيث ارتفع سعر صرف الدولار الاميركي إلى أكثر من 0150 دينار عراقي، بفارق سعري قيمته 3 دولارات أي ما يقرب من 5000 دينار لكل مئة دولار عن سعر الصرف الرسمي الذي يبيع به الدولار للمصارف التجارية.
ان المخاوف الحقيقية يمكن ان تأتي من ان استمرار الارتفاع في الطلب على الدولار سيرفع من مستوى عتبة سعر صرف الدولار وانتقاله من 1460 الى 1500 وبذلك سينتقل مستوى التضخم الى مراحل اخرى قد تؤدي الى صعوبة الرجوع الى عتبة 1460، ولاسيما في ظل تصريحات اعلامية قريبة من قرار المركزي بان سعر 1460 لم يعد متناسبا مع السوق.
ومما لاشك فيه إن ارتفاع سعر صرف الدولار وتذبذبه باتجاه الارتفاع، ينعكسان واقعيا وبشكل مباشر على أسعار السلع والمواد الأساسية والكمالية، وفي خضم تزايد مخاوف المستهلك العراقي من استمرار انعكاس حدة الارتفاعات المستمرة لسعر صرف الدولار على القيمة الحقيقية للنقود ولاسيما لذوي الدخل المحدود وذوي الدخل المتوسط فضلا عن الفئات الهشة، مما يشكل عقبة حقيقية لاستقرار المستوى المعاشي، ولايخفى كذلك التاثير البالغ للارتفاعات المذكورة على مستويات التضخم وانعكاسه السالب على اداء قطاع الاستثمار الخاص عبر التقلب الحاصل في توقعات المستثمرين وسيادة اجواء عدم اليقين الناشئ من الاعلان المستمر للبنك المركزي عن التخفيض, وعدم استجابة اسعار الصرف لاجراءات السياسة في الاسواق, مما يثير تساؤلا حقيقيا عن مدى فاعلية تلك الاجراءات ومدى ملامستها الواقع وما يشهده من معاناة لمختلف الشرائح الاجتماعية جراء الانخفاض الواضح في قيمة النقود .
وانتقالا الى سياسة استهداف التضخم يستدل من الآثار المذكورة اعلاه، انخفاض اداء سياسة استهداف التضخم عبر نظام الصرف الثابت بما لا يضمن الاستقرار المالي في الأسواق العراقية، ومنه اختلاف قيمة الدينار العراقي وتراجعها الى حدود جديدة اكثر انخفاضا، ستهدد استقرار الدخل الحقيقي والتوازن المالي والكلي، مما يتطلب من البنك المركزي الدخول في اجراءات اكثر فاعلية للرجوع الى الحدود التي سادت في العام الماضي وعلى اقل تقدير 146 -147.
لذا، للحفاظ على فاعلية السياسة النقدية في اتجاهها الكابح للتضخم وتحقيقا لهدفها الاستراتيجي تضخم متدن ومستقر، يمكن تشخيص خطوتين محوريتين:
1- على البنك المركزي ان يتخذ استراتيجية قصيرة الاجل تتناسب والدور الرقابي الاخير وتحد من آثاره على واقع اسعار الصرف المحلية والمستوى العام للاسعار، تحقيقا لتضخم متدن ومستقر، عبر تنظيم عرض النقد باتباع سياسة انكماشية تسعى الى امتصاص السيولة وتجنيب البلاد مخاطر الارتفاع المتزايد في المستوى العام للأسعار عبر زيادة المعروض من الدولار من خلال النافذة.
2- ابتكار وتنفيذ آليات جديدة تسهم في تعويض انخفاض مبيعات البنك المركزي من الدولار.