منذ مئة عام والنفط يتربع على عرش مصادر الطاقة العالمية بدون منازع، فأهميته الاستراتيجية كبيرة فهو العامل الحاسم في الحروب ومحرك الاقتصاد وقت السلم، وهذا لم يكن بسبب ضخامة ما يجهزه من طاقة فقط فصافي الطاقة المحتواة في مجمل استهلاك العالم من النفط أقل من 40% من مزيج الطاقة العالمية، ولكن أهميته تأتي من مرونة استخدام تلك الطاقة في نقلها وخزنها إضافة لسهولة تحريكها لوسائط النقل التي تحرك عجلة الاقتصاد وتنقل الناس والبضائع حول العالم.
من ناحية أخرى يشكل الغاز الطبيعي وقود رخيص نسبيا ذو كثافة طاقة عالية عند تسييله ومعدل انبعاثاته أقل من النفط بـ28% عند الحصول على نفس كمية الطاقة، فالعالم يستهلك اليوم 141.2 مليون مقمق (مليون قدم مكعب قياسي من الغاز) بما يعادل 24.34 مليار برميل نفط سنويا، بينما يستهلك العالم 36 مليار برميل نفط سنويا 65% منها تستخدم كوقود لمختلف وسائط النقل ولتشغيل المعدات الإنشائية والزراعية أي بحدود 23.4 مليار برميل سنويا. أما على صعيد السعر فالغاز الطبيعي المسال LNG Liquid Natural Gas أرخص كثيرا من النفط، ف30 لتر من البنزين تكلف في المتوسط 30 دولارا تحوي تقريبا مليون وحدة حرارية بريطانية، بنفس الوقت فإن 1000 قدم مكعب من الغاز تحوي أيضا مليون وحدة حرارية بريطانية يمكن تسييلها لتكون 47.2 لتر من الغاز المسال كلفتها لا تتجاوز 10 دولار، لذا لنا أن نسأل لماذا لم يحصل الغاز الطبيعي على جزء كبير من سوق وقود النقل العالمي؟ ولماذا اقتصر استخدامه كوقود على عدد محدود جدا من السيارات والشاحنات والسفن؟ فيما لم نشاهد قطاراً أو طائرة أو جرافة تعمل بالغاز، هنا سأجاوب على هذه التساؤلات بالتفصيل.
أولا، الغاز الطبيعي كمصدر طاقة هو جديد على العالم فرغم تزايد استخدامه منذ ستينات القرن الماضي، ألا أن عمليات تطوير الإنتاج الكبيرة لم تبدأ ألا في التسعينات وكان غالبا يستهلك محليا ضمن نفس البلد حيث ان تجارة الغاز الطبيعي العالمية حتى عام 1990 لم تكن تتجاوز 15% من مجمل استهلاك العالم من الغاز الطبيعي وكان أكثر من 97% منها ينقل عبر الأنابيب كغاز جاف، فكان يقتصر استخدامه على المجال الصناعي وللتدفئة، لذا فقد وجد أمامه صناعة نفطية عريقة قائمة بحقولها ومصافيها وأسواقها ومرافئها وناقلاتها وخطوط أنابيبها ومحطات تعبئة الوقود والمعدات التي تشغلها ووسائط النقل التي تكيفت وصممت لتناسب العمل بها، لذا لم يكن من السهل تغيير هذه البنية التحتية الضخمة التي اعتاد عليها الناس وتكيفت معها الاقتصادات، فمثلا لن تقدم ماركة سيارات عالمية مشهورة على الاستثمار في تصميم سيارة بمحرك غازي لتطرحها في الأسواق فيما لا توجد بنية تحتية تدعم تزودها بالوقود ولا كميات غاز مسال كافية ولا يوجد تقبل شعبي لها، أما في مجال النقل الجوي فالمسألة أعقد فتصميم طائرة تجارية ناجحة مكلف ولا تقوم به الشركات باستمرار فبعض تصاميم الطائرات بقيت على حالها لمدة تصل ل50 سنة، لذا لا تجازف هذه الشركات بمشروع طائرة غازية مكلف يتخوف المسافرين منها وتتردد الشركات في تشغيلها كما لا تستقبلها المطارات لعدم توفر البنية التحتية الغازية فيها.
ثانيا، الغاز الطبيعي يصعب التعامل معه بالنقل والخزن، فلنقله نحتاج أنابيب وهذه الأنابيب محدودة في مسافاتها مما يقيد إمكانية النقل كما أن أنابيب الغاز تحتاج أقطار أكبر من مثيلاتها النفطية بسبب قلة الكثافة وهذا يرفع كلفتها كما يقلل كمية الغاز المنقول عبرها ككمية طاقة إذا قارناها بما تنقله أنابيب النفط، وهذا ما يوصلنا لتسييل الغاز ليمكن تحميله على الناقلات وتصديره، وهذا يجعل التسييل هو العامل الحاسم في الموضوع فتسييل الغاز صعب ويحتاج منشآت تبريد معقدة ومكلفة لتبريده ل-162 درجه سيليزية، عملية التسييل هذه تستهلك 20% من طاقة الغاز، عندها يمكن تحميل هذا الغاز المسال في ناقلات الغاز التي تتكون خزاناتها عادة من طبقتين من الفولاذ السميك تتخللها عوازل أو وسط مفرغ من الهواء للمحافظة على درجة تبريد معقولة ومنع تزايد الضغط الناتج من الحرارة الخارجية مما يسبب خطراً كبيراً، ورغم هذا يحتاج هذا الغاز لحد أدنى من التبريد لقشرة الخزان في بعض الأجواء لضمان السلامة، لذا فإن عمليتي التسييل والنقل تتطلبان الكثير من الطاقة إضافة لمنشآت وسفن باهظة التكاليف تعمل ضمن أعلى معايير السلامة (حيث يكلف بناء ناقلة الغاز 200-300 مليون دولار)، وحينما تصل تلك الناقلة لوجهتها في موانئ مخصصة للغاز تتمتع بأعلى درجات السلامة يفضل أن تكون بعيدة عن غيرها من الموانئ أو المدن لتفرغ حمولتها ويتم خزنها في خزانات يفضل أن تكون تحت الأرض لضمان سلامتها وعدم تعرضها لأي حرارة، وعند الحاجة لنقلها بعيداً عن الموانئ فلا بد من استخدام الأنابيب التي تكون غالبا مكشوفة ومكونة من طبقة واحدة لا يمكنها المحافظة على ضغط الغاز السائل وحرارته، لذا يتم إرجاع الغاز المسال لحالته الغازية regasification في منشآت خاصه ليضخ في الأنابيب التي توصله لوجهته النهائية، وعندها إن أردنا أن نستخدمه كوقود للنقل فيجب إعادة تسييله مره أخرى في منشآت مكلفة تستهلك الطاقة ونعود لنخسر 20% أخرى من طاقته، لذا فخسارة الطاقة الكبيرة إضافة لإجراءات السلامة ومعايير الأمان المرتفعة تجعله غير مرغوب كوقود نقل.
ثالثا، عملية تسييل الغاز توسعت خلال القرن الحالي مع نمو تجارة الغاز المسال واستهلاكه عالميا وهي محدودة بسبب ما تتطلبه من استثمارات أولية ضخمة حيث أن تكلفة منشأة التسييل تقريبا 1.5 مليار دولار لكل منشأة تنتج مليون طن غاز مسال سنويا، لذا فمجمل الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم سنويا لا يتجاوز 400 مليون طن وهي تعادل 1.6 مليار برميل نفط، ولو استهلكت كل هذه الكمية من الغاز المسال كوقود للنقل حصرا فستكفي العالم 25 يوماً من السنة فقط ! لذا لا يمكن الاعتماد عليه كوقود وهذا يؤدي لتخوف وتردد مصنعي المعدات ووسائط النقل من طرح منتجات تعمل بالغاز لأن سوق بيعها سيكون محدوداً جدا مما يؤدي لارتفاع احتمالية الخسارة.
جميع هذه العوامل وأهمها محدودية إمكانيات التسييل العالمي أدى للاكتفاء بنقل غالبية تجارة الغاز العالمية عبر الأنابيب حيث تمثل التجارة الدولية للغاز الطبيعي اليوم 30% من مجمل استهلاكه العالمي، مما جعل الغاز الطبيعي يقتصر استخدامه على بعض الأنشطة مثل توليد الكهرباء، حيث يستخدم 35% منه لتوليد 24% من الكهرباء العالمية سنويا بما يصل ل6600 تيراواط .ساعه فتوربينات الغاز تعمل بشكل تكميلي ممتاز مع الطاقات المتجددة (الشمسية والرياح) نظرا لسرعة استجابتها حيث يمكن تشغيلها وصولا لذروة الإنتاج خلال 15 دقيقة فقط فيما يتطلب إطفاؤها نفس المدة تقريبا، 30% من الغاز الطبيعي يستهلكها العالم كوقود للتدفئة وللطبخ، 30% أخرى من الغاز الطبيعي تستهلك كماده أولية لعدد من الصناعات أهمها لإنتاج الأمونيا التي تدخل في صناعة الأسمدة ولتشغيل بعض المصانع (عادة صناعات ثقيلة مثل الألمنيوم والفولاذ والأسمنت) بشكل مباشر، فيما يستهلك 5% من الغاز كوقود للنقل ضمنها تشغيل خطوط الأنابيب.
لذا نجد أن عدداً قليلاً من السفن صممت لتعمل بالغاز نظرا لأنها تنقل الغاز أو لأن الغاز متوفر عادة في كثير من الموانئ حول العالم، أما على صعيد السيارات أو الشاحنات أو الحافلات فتبقى أعدادها محدودة تخضع للسياسات المحلية لدولة معينة تشجع على اقتنائها بسبب توفر الغاز المسال أو ضمان إمدادات مستقرة (عادة قرب الموانئ) ولكن هذا يبقى محدوداً ومرتبطاً بتوفر محطات تعبئة تغذيها على امتداد مساراتها.