ريعية الاقتصاد العراقي بين الوفرة المالية وتحديات الاستثمار

د. هيثــم حميد مطلك          

بعد الانخفاض الملحوظ  في مستويات الجائحة العالمية ،شهدت اقتصادات العالم تعافيا في النشاط وحركة التبادل مما انعكس على وضع الاقتصاد العراقي بعد ان بلغ  الانكماش اكثر من  11% في عام 2020 ،وهو ما اكده البنك الدولي في تقريره الاخير في حزيران بان الاقتصاد العراقي بدأ ينشط بشكل تدريجي من الركود متأثرا بارتفاع الطلب العالمي النفطي و ارتفاع معدلات الايراد النفطي، وبالرغم من التوقعات المتفائلة للتقرير ذاته ببلوغ  متوسط معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي حدود 5.5% للسنتين القادمتين، فان الاقتصاد العراقي في حقيقة الامر يواجه تحديا كبيرا كونه اقتصاد ريعي بالمقام الاول اذ يعتمد على إيراداته من تصدير 4.5 مليون برميل يوميا لتمويل 90 % من الانفاق العام، مما لا يمكنه ذلك من تنويع مصادر الدخل الكلي من القطاعات الاخرى كون الانفاق الاستثماري  الخاص والعام منخفض الى ابعد الحدود بل يكاد يكون معدوما في اغلب بنود الموازنة العامة لصالح الانفاق التشغيلي، الامر الذي يحول دون تنشيط العمليات التي من شأنها تعديل الاختلالات واعادة التوازن الكلي وكسر الجمود في دورة الدخل، ولاسيما في قطاع الخدمات .

اذن فالتوازن الاقتصادي الكلي يفتقر الى تنشيط  قطاع الاستثمار وتوسيع نطاقه وتعميقه بشكل يعوض التسرب في دورة الدخل لصالح النمو الاقتصادي.

وبسبب ما يعتمل في هيكل الاقتصاد العراقي من التشوهات الجوهرية التي تمس الطلب الكلي وبنية  الاستثمار وما يتأثر به من قيود اجتماعية ومؤسسية  لها تداعيات خطيرة على قطاع الاعمال وبيئة الاستثمار  وتأثيرها في مستويات الكفاءة الحدية لراس المال وانعكاسها المباشر على تفضيلات وقرارات المؤسسات والافراد للشروع في نشاطاتهم المالية والاستثمارية، فان البرلمان مدعو الى الاسراع في تشكيل الحكومة لإقرار الموازنة العامة واجراء تعديلات ضرورية في تخصيصات العقود الاستثمارية للقطاع العام ، وتهيئة البيئة القانونية والادارية المناسبة لتنمية القطاع الخاص، والبدء بالمعالجات الهيكلية والمالية الكلية المطلوبة للحد من العوائق التي تعترض جذب الاستثمار الاجنبي المباشر اللازمة لترسيم الاطار الاستراتيجي للبنى التحتية وتذليل الصعوبات التي تعترض آفاق الاستثمار والتمويل.

لذا يمكن تشخيص خمسة  نقاط مهمة لكسر الجمود في قطاع الاستثمار، وهي:

الاولى: تمثلت في الوفرة المالية جراء ارتفاع معدلات ايرادات النفط العراقية، بسبب ارتفاع الاسعار العالمية، وإلغاء تخفيضات إنتاج (أوبك+ )، حيث شهدت معدلات صادرات الناتج النفطي ارتفاعا ملحوظا في النصف الثاني من عام 2021 لتبلغ 3.244 مليون برميل وبمعدل سعر للبرميل الواحد 110 دولار.، مما زاد في فائض الأرصدة المالية العامة والأرصدة الخارجية الكلية للعراق، الا اننا لا نجد لهذه الوفرة المالية اي حضور في اوجه الانفاق الاستثماري ليستمر الجمود في تيار المال والاستثمار. وبالرغم من اقرار قانون الامن الغذائي الاخير فان ما تضمنه من اعانات وتحويلات مالية مباشرة لم تدعم حركة راس المال الاستثماري وانما استهدفت عددا من النشاطات الاجتماعية والاقتصادية قصيرة الاجل، للتقليل من آثار عدم تشكيل الحكومة وتأخر اقرار الموازنة، ولاسيما على عدد من النشاطات التشغيلية الضرورية الملامسة لحياة المواطن وتحقيق الحد الادنى من الأمن الغذائي. لذا فان من الاهمية بمكان ترسيخ السياسة الاقتصادية المخفضة للريعية بما يتناسب مع الامكانيات والموارد والبشرية .

الثانية : تمثلت في غياب سياسة استثمارية تدعم المنتج المحلي اذ ان من الغرابة بمكان برغم ما يشهده العالم من ارتفاع كبير في معدلات التضخم العالمية الناجمة عن الارتفاع الحاد في مستويات الرقم القياسي لأسعار السلع الأساسية من الغذاء واسعار مصادر الطاقة عالمياً وبرغم تزايد الطلب الداخلي نتيجة ارتفاع مستويات النمو الحضري والسكاني، ان لا نجد اي توجه اقتصادي نحو تشجيع وتنمية الانتاج الوطني من السلة الغذائية التي تتوافر امكانيات انتاجها محليا .

الثالثة : تختص بريعية الاقتصاد والطبيعة المتذبذبة لأسعار النفط العالمية وتقلبها فان الوفرة المالية المتكونة من ارتفاع ايرادات الناتج النفطي يعدها الكثير من الاقتصاديين قفزة استثنائية للشروع في المعالجات الهيكلية لبناء وتنمية الحد الادنى من البنية التحتية المهمة لجذب راس المال الاجنبي .

الرابعة :  وتتعلق بهيكل التمويل الداخلي والخارجي لعمليات التعويضية للنقص الحاد في تكوين رأس المال اللازم للنمو، فان القطاع المالي يواجه مديونية داخلية وخارجية تشكل تحديا حقيقيا لصناع السياسة المالية والنقدية باتجاه تنسيق اهداف تمويل الاستثمار لتنويع مصادر الدخل في مشاريع قطاعي الزراعة والصناعة المحلية لرفع مرونة تسديد اقساط الدين الداخلي الذي يقدر بنحو 50 مليار دولار والدين الخارجي الذي انخفض الى 20 مليار دولار، ومن ثم تخفيض ثقل الدين العام على الاقتصاد.

الخامسة :  يمكن بناء خارطة استثمارية لادارة اقتصاديات قطاع النفط  نحو الحد من الريعية من خلال اتباع سياسة احلال الواردات في كل من المشتقات النفطية والغاز الطبيعي وتعميق بعض الصناعات البتروكيمياوية الاستراتيجية لقطاع الخدمات والبنى التحتية اللازمة لجذب الاستثمار الاجنبي واعادة بناء هيكل الصناعة النفطية ،لضمان زيادة مرونة العرض لمادتي النفط والغاز.

ان النقاط الخمسة المذكورة من الممكن ان تسهم في تحقيق التوازن الاقتصادي الكلي لحركة الاستثمار والمال، في ضوء بناء صياغة سياسة اقتصادية كلية مخفضة للظاهرة الريعية .

 

 

 

 


مشاهدات 1268
أضيف 2022/06/28 - 10:59 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 13603 الشهر 65535 الكلي 7956442
الوقت الآن
الأربعاء 2024/4/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير