الحرب والطاقة
أحمد صباح عبدالله

تمثل الحرب التحدي الأقصى للأمم فهي تدفعها نحو حدودها القصوى لاستثمار إمكانياتها لفرض أرادتها على نتيجة الصراع، فالحرب رغم همجيتها و بربريتها تشكل جزء مهم من مسيرة تطور الحضارة البشرية تقنيا واجتماعيا وتجاريا، فالحروب على مر التاريخ دفعت لتطوير تقنيات واختراعات جديده فالحرب العالمية الثانية مثلا أدت لتطور الطيران التجاري كما تطور خلالها الحاسوب لفك شفرات أينيغما الألمانية، كما دفع سباق التسلح النووي خلال الحرب الباردة لتطوير استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، كذلك أدت الصعوبات والأخفاقات التي واجهتها الولايات المتحدة في سنوات حربها في العراق لتطوير تقنيات استخراج و معالجة النفط الصخري و النفط الرملي و النفوط الثقيلة كما أدت لابتكار تكنلوجيا التكسير، و هذا جعل الولايات المتحدة تقلل اعتمادها على النفط المستورد و تعود خلال ال12 سنه الأخيرة للريادة في مجال النفط و الغاز كأكبر منتج في هذين القطاعين على مستوى العالم محققه أمن الطاقة ومبتعدة عن تأثير الشرق الأوسط غير المستقر. السبب هو أن الهياكل الادارية للدول والمؤسسات في أوقات الحروب تكون أكثر انفتاحا على الأفكار الجديدة و أكثر استثمارا في التقنيات التي تعطيها ميزه تنافسيه في هذا التحدي، لذا فأن ساحة الحرب اليوم هي في أوكرانيا لكن حلبة الصراع الحقيقي هو ميدان الطاقة الذي يعتمد عليه اقتصاد روسيا كما تهدد أوربا به للي ذراعها، صحيح أن أوربا و الولايات المتحدة ستضطران لإعادة فتح محطات توليد الكهرباء بالفحم و تقليل الدعم عن قطاعات الطاقة المتجددة و السيارات الكهربائية على المدى القصير، لكن على المدى البعيد هذا سيؤدي لموجة استثمارات تتدفق على قطاعات الطاقة المتجددة و السيارات الكهربائية و منشأت الهيدروجين و وسائل خزن الطاقة و الذكاء الصناعي، كما قد تحقق تطوير لمحرك الاحتراق الداخلي يرفع نسبة كفاءته و يقلل استهلاكه للوقود و هذا سيمد من عصر النفط و يجعله أكثر قبولا بيئيا، فالهدف هو تحقيق اختراق تقني يؤدي لحسم الصراع لصالح الغرب بتقليل اعتماده على النفط و الغاز خلال العشر سنوات القادمة.

قد لا تؤدي الحرب بالضرورة لابتكارات أو اختراعات جديده و أنما لنشر ابتكارات و تقنيات كانت تستخدم على نطاق ضيق قبل الحرب و هذا حصل في الحرب العالمية الأولى حينما أنتشر محرك الاحتراق الداخلي الذي يعمل بالبنزين أو الديزل محل الخيول و العربات و السفن و القطارات التي تعمل بالفحم كما أنتشر استخدام الطائرات الحربية الصغيرة التي تعمل بالكيروسين و هذا يعتبر بداية عصر النفط مما أدى لخسارة دول المركز (ألمانيا القيصرية وإمبراطورية النمسا والدولة العثمانية) لأنهم ليس لديهم حقول نفطيه و لم يسرعوا لتطوير حقلهم الوحيد المكتشف أنداك في كركوك، مثال أخر هو الحروب النابليونية نهاية القرن الثامن عشر و مطلع القرن التاسع عشر التي أدت لانتشار الثورة الصناعية و طاقة المحرك البخاري التي كانت مقتصره على أنكلترا لتتوسع و تنتشر في غرب أوربا، مثال ثالث من التاريخ المعاصر حينما حصلت أزمة النفط العربي في حرب 1973 و ما تلاها من قفزه لأسعار النفط خلال السبعينات، حيث استجابت الولايات المتحدة خلال عقد الثمانينات بأن تبنت سياسات تدعم السيارات الاقتصادية الموفرة للوقود حتى أن تصاميم السيارات الأمريكية العملاقة التي كانت منتشرة في مطلع السبعينات انحسرت و حل محلها تصاميم لسيارات اقتصادية تحاكي السيارات اليابانية حيث أرتفع عدد الكيلومترات التي تقطعها السيارات الأمريكية لكل لتر من البنزين بشكل كبير، مما أدى لركود في سوق النفط خلال الثمانينات و أدى لانخفاض أسعاره، لذا فأن حرب الطاقة الحالية بين روسيا و الغرب ستقود حتما لتسريع أنتشار السيارات الكهربائية و مركبات الهيدروجين و الوقود الحيوي أضافة لتوسع الاستثمار في قطاعات الطاقات المتجددة من شمس و رياح، فالحرب هنا تحث المجتمعات والاقتصادات على سرعة التحول لاكتساب التفوق الذي يقود لأنهاء الصراع لصالحها.

و أخيرا فأن الحرب قد تؤدي للبحث عن بدائل أو مناطق أخرى للاستثمار لسد الحاجه ولإعطاء مرونة في قطع مصادر تمويل الخصم، أهم مثال و هو ما يقترب جدا من المواجهة الحالية بين روسيا و الغرب هو الحرب الأهلية الأمريكية 1861-1865 التي دارت رحاها بين شمال أتحادي فدرالي ليبرالي صناعي و جنوب انفصالي كونفدرالي محافظ زراعي يعتمد في تمويل حربه على أهم أسلحته و هو محصول القطن (حوض المسيسبي مثالي لزراعته بسبب وفرة المياه و خصوبة التربة واعتدال المناخ والعمالة الرخيصة المتمثلة بالعبيد) الذي كان يدر عوائد مجزيه على الجنوب مما أدى لانتشار الثراء بين نخبه، و برغم أن سكان الجنوب كانوا ربع عدد سكان الشمال أضافة لضعف قاعدته الصناعية التي كانت تمثل 10% من مجمل القطاع الصناعي الأمريكي أنذاك ألا أن الجنوب أستطاع ألحاق الهزائم بالشمال حتى أنه أقترب من عاصمة الشمال الاتحادي واشنطن نتيجة تماسك مجتمعه وارتفاع معنوياته و أيمانه بقضيته، الحقيقة أن وضع الكونفدراليين الجنوبيين مطابق لوضع روسيا الحالي بشكل ملفت للانتباه حيث أن الرئيس أبراهام لنكولن آنذاك تعهد لهم بعدم المساس بعبيدهم و لكن ازدياد عدد الولايات التي تحظر العبودية جعلهم يشعرون بالخطر ففضلوا البدء بالحرب للاستقلال على الانتظار فيتحولوا لأقلية يفرض عليها أمر واقع و كذلك حال روسيا اليوم التي أصيبت بالهلع من تبني شعوب اوروبا الشرقية للديموقراطية الليبرالية و تتابع انضمامها للاتحاد الأوربي و حلف الناتو، لذا فضلت البدء بالحرب لتعزيز هيمنتها على شرق أوربا بدل الانتظار و التحول لدوله معزولة ، الأن لنعود للحرب الأهلية الأمريكية حيث أن الجنوب كان له نقطة ضعف هي اعتماد اقتصاده على تصدير القطن لشراء الأسلحة، فما كان من الشمال الاتحادي الذي يمتلك اسطول قوي ألا أن فرض الحصار البحري على الجنوب مانعا صادرات القطن لأنكلترا التي كانت مصانع الغزل و النسيج فيها تعتمد على القطن الأمريكي، الجنوبيون حاولوا الحصول على قروض من المصارف البريطانية بضمان محصول القطن للسنوات التالية في حال انتصارهم غير أن البريطانيين ترددوا في دعمهم و فضلوا الاستثمار في مناطق أخرى من العالم، و بسرعه تمكن البريطانيون من العثور على بدائل في الهند ومصر اللتان أرتفع أتناجهما من القطن خلال سنوات معدودة بشكل هائل مما أدى لاستغناء المصانع البريطانية عن القطن الأمريكي، و بذلك فقد الكونفدراليون الجنوبيون أهم مصادر تمويلهم فقاموا بطبع كم هائل من العملات النقدية في محاوله يائسة لتمويل الحرب و لكن عملتهم كانت قد فقدت قيمتها، لتسقط عاصمتهم رشموند و تنتهي الحرب الأهلية الأمريكية بانتصار الشمال الاتحادي، لذا فأن هذه الحرب بين روسيا و الغرب ستقود لتدفق موجة استثمارات هائلة في قطاعي النفط و الغاز حول العالم في محاولة لتقليل الاعتماد على النفط و الغاز الروسي، فها هو الغرب يطرق أبواب السعودية كما يمد يده لفنزويلا متناسيا الخلافات السياسية لأخراجها من عزلتها و أعادة الحياة لقطاعها النفطي فيما يسعى لحلحلة المشاكل مع أيران لأرجاعها للاتفاق النووي الذي سيرجع نصف أنتاجها النفطي للأسواق، أذا هذه فرصه ذهبيه يجب أن نستغلها لجذب الاستثمارات و التكنلوجيا و الخبرة الأجنبية لتطوير قطاعنا النفطي و الغازي، فالحرب هنا تعمل كمحفز لرأس المال و الشركات العالمية العملاقة للبحث عن شراكات اقتصادية جديده و أماكن بديله للاستثمار.


مشاهدات 1461
أضيف 2022/03/09 - 4:37 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 14825 الشهر 65535 الكلي 7957664
الوقت الآن
الأربعاء 2024/4/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير