قراءة للمشهد العالمي في ظل الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصادات

يوم 24 شباط 2022 فجرا استيقظ شيطان الحرب في أوربا بعد أن كان في سبات لعقود مضت، والآن جاءت الحرب في أوكرانيا لتوقض المخاوف القديمة ولتجعلنا أمام نقطة تحول في لنظام العالمي، فعالم ما بعد الحرب الباردة وما قام عليه من ركائز كالليبرالية والديموقراطية والحرية الفردية والسوق الحر والعولمة يواجه أزمة عميقة اليوم، فالحرب الروسية على أوكرانيا جعلت الغرب والأوربيين خصوصا يستفيقون على واقع جديد يعيد أوربا ساحة للحرب الباردة التي قد تسخن كما يحصل الأن في أوكرانيا التي بددت عملية اجتياحها الحلم بسلام دائم.

أول سؤال يطرح اليوم في ذهن الأوربيين هو هل سيكتفي بوتين بأوكرانيا؟ والجواب لا حيث إن مطالب الرئيس بوتين تتعلق بإرجاع الناتو لحدوده ما قبل العام 1997، أي إخراج بولندا وجمهوريات البلطيق (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) والشيك وسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا وكرواتيا وبلغاريا وسلوفينيا وألبانيا من الحلف، فهل هناك ضمانات بعدم اجتياح هذه الدول على غرار أوكرانيا أن أخرجت من الحلف؟ طبعا لا توجد ضمانات فالدب الروسي شهيته مفتوحة لتوسيع مجاله الحيوي ويستمر في حياكة شبكة من الأنظمة الحاكمة الفاسدة المرتبطة به، من ناحية أخرى هل أن روسيا دولة مؤسسات ديموقراطية بحيث يمكن استبدال بوتين الذي يسيطر على المشهد السياسي منذ 23 عاماً؟ الجواب لا فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين باق في السلطة حتى وفاته على الأغلب وباستعراض بسيط لسيرته التي تتضمن حرب دموية في الشيشان عام 2000 ونوويةآخرى ضد جورجيا التي انتزع منها أقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008، وحرب ثالثة ضد أوكرانيا عام 2014 التي أنتزع منها شبه جزيرة القرم وإقليمي دونتسك و لوهانسغ، إضافة لتدخل عسكري دموي عنيف في سوريا لمنع سقوط نظام الأسد وتدخل أخر في كازاخستان اقل دمويه قبل شهر لدعم النظام الموالي له و الأهم هو أجتياح دولة مسالمه بحجم أوكرانيا امام أنظار العالم. إذا نحن أمام مستبد متشبث بالسلطه ينوي أبقاء حلفائه في لإعادة خارج حدوده كما يسعى لإعادة رسم خارطة العالم وكيف وليس أوربا فقط فهو يعيش في أوهام الاتحاد السوفيتي وروسيا القيصرية، أي في زمان آخر، و هذه المعطيات هي ما تثير هلع الغرب و تجعل الجميع في أوربا يسأل من التالي؟ و كيف سنتعامل أن تم تهديد دوله أخرى؟ الجواب يأتي مع عقيدة الغرب الليبرالي في الردع التي تتحاشى الحرب المباشره خصوصا مع قوه قوةالمباشرة و تلجأ للعقوبات الأقتصاديه كما فعلت الولايات المتحده مع اليابان عام 1941 عندما غزت الصين فعمدت لمقاطعتها ومنع تصدير النفط لها ، فالأمريكان خيروا اليابانيين أما إيقاف، الغزو أو الخنق الأقتصادي، ولكن اليابان محدودة الموارد فضلت خيارا ثالثا يتضمن ضربة عسكرية مركزه ضد الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر ليتيح لها الفرصة لابتلاع جنوب شرق آسيا لإنعاش اقتصادها وتوفير النفط لآلتها العسكرية، مثال أخر حينما هاجمت ألمانيا بولندا عام 1939 أعلن الفرنسيين والبريطانيين الحرب على ألمانيا ولكن لم يهاجموها أنما اكتفوا بتعزيز الدفاعات على الحدود الفرنسية والبلجيكية لتحاشي أي حرب برية وبنفس الوقت عزلت البحرية البريطانية السواحل الألمانية لقطع تجارتها وبالتالي إلحاق الضرر الاقتصادي بألمانيا لإجبارها على الانسحاب من بولندا، ولكن الحلف والتبادل الاقتصادي بين ألمانيا والاتحاد السوفيتي آنذاك أفشل هذه المقاربة وبقي الاقتصاد الألماني قويا لتجتاح بعدها ألمانيا فرنسا وبلجيكا ملحقه هزيمة نكراء بالحلفاء.

اذا العقوبات الاقتصادية هو سلاح الغرب الذي يعول عليه لإلحاق الضرر بروسيا وتقويض حكم الرئيس بوتين، ولكن هذا السلاح ليس مجاني فهو يلحق الضرر أيضا بمستخدميه فأوربا تعتمد على قطاع النفط والغاز الروسي الذي سيسبب استبداله بكلف نقل باهضه إضافة للاستيراد الروسي للبضائع الأوربية والاستثمارات المتبادلة، لذا فإن الثمن الذي سيتحمله الغرب ليس بالقليل ولكنه أرخص كثيرا من التورط في صراع عسكري مباشر مع روسيا، فحرب نووية تعني كارثة اقتصادية أن لم تكن ستمحي الجميع.

يعول الحلفاء الغربيون على كبر حجم اقتصاداتهم مقارنة بالاقتصاد الروسي، فمجموع حجم اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وكندا وأستراليا واليابان وكوريا ونيوزيلندا يبلغ تقريبا 40 ترليون دولار كناتج إجمالي سنوي وهو يقترب من نصف أجمالي الاقتصاد العالمي بينما الناتج الإجمالي السنوي لروسيا لا يتعدى ال1.5 ترليون دولار، لذا فإن لعبة عض الأصابع والقدرة على تحمل الخسائر الاقتصادية تصب في صالح الحلفاء الغربيين حتى بوجود احتياطي ضخم من الذهب والعملة الصعبة عند روسيا يقدر ب 800 مليار دولار (بما فيها الصندوق السيادي وصندوق الطوارئ واحتياطيات البنك المركزي)، فدفع الاقتصاد الروسي للانكماش يكلف الأوربيين ركود أقتصادي لأنهم الأكثر تضررا كما سيكلف بقية الحلفاء الغربيين تقليل معدلات النمو، والآن للنقاش احتمال استمرار العقوبات لخمس أو عشر سنوات على هذه الأطراف:

  1. الأقتصاد الروسي سيعاني من انكماش حاد وضعف استثمار في قطاع النفط والغاز، وهذا سيجعل روسيا أكثر عدوانية فالرخاء الاقتصادي الذي حققته خلال العقدين الأخيرين سيتلاشى، كما سيؤدي أعادة تسليح جيشها بعد استنزافه بسبب الحرب على أوكرانيا بتبعات اقتصادية، وقد تتورط بسباق تسلح جديد بسبب المخاوف المتبادلة وهو ما سيضع عبء اقتصادي إضافي عليها، لذا ستلجأ على الأغلب لافتعال المزيد من المشاكل والتوترات والحروب مع جورجيا أو جمهوريات البلطيق أو رومانيا أو بولندا أو مولدوفا لتشتيت انتباه شعبها عن أزمتها الاقتصادية و أبقائهم في حالة مواجهة مستمرة.
  2. بالنسبة لأوكرانيا فان روسيا لا تستطيع ابتلاع نصف أوكرانيا فقط وتقسيمها لدولتين أحدهما موالية لها، لإن ذلك سيجعل الحلفاء الغربيين يضمون الجزء الغربي من أوكرانيا لحلف الناتو والاتحاد الأوربي بعدما كانوا يتحفظون على ذلك في محاولة لعدم إغضاب روسيا في الماضي، لذا فأن احتلال أوكرانيا بشكل تام هو الهدف المنطقي للعملية العسكرية الروسية، ولكن ذك سيفجر حرب عصابات ومقاومة شرسة خصوصا في غرب أوكرانيا بدعم من حلف الناتو عبر الحدود، وهذا سيقود لتوتر جديد بين أوربا وروسيا، فأوروبا لا تريد أن تترك أوكرانيا لقمة سائغة لروسيا لتفتح شهيتها على ما جاورها فتلتهم المزيد من الدول إنما تريد أن تستمر المقاومة الأوكرانية لأطول فترة ممكنة لاستنزاف روسيا عسكريا واقتصاديا وأخلاقيا حيث أن دعم الأوكرانيين بالمال والسلاح أسهل وأرخص كثيرا من التورط بحرب مباشرة مع روسيا، من ناحية أخرى ستعاني أوكرانيا المدمرة من نظام استبدادي يفرض عليها كما ستعاني من انعزالها اقتصاديا عن الغرب، لذا فأن الأحوال المعيشية السيئة في أوكرانيا إضافة لنظام حكم غير ديموقراطي مع الإذلال وانتزاع الأقاليم سيؤججان المشاعر القومية أكثر ويحفزان على المقاومة لسنوات قادمة.
  3. الأقتصاد الأوربي سيعاني من الركود أي انعدام النمو لسنوات قادمة بسبب علاقته الوثيقة مع الاقتصاد الروسي أضافة لتخصيص المزيد من الأموال لبرامج التسلح بسبب المخاوف الأمنية من مواجهة مرتقبة مع روسيا، كما أن نقص الطاقة في اوروبا سيجبرها على أعادة فتح محطات توليد الكهرباء بالفحم وإيقاف الدعم عن قطاع الطاقة النظيفة المتجددة والسيارات الكهربائية مما يشكل ضربة كبيرة لجهود الحد من الانبعاثات ومحاربة الاحتباس الحراري التي تتصدرها أوربا.
  4. الأقتصاد الأمريكي سيعاني من تباطؤ النمو جراء العقوبات على روسيا مما يعطي مجالا أوسع للصين لتقلص الفارق مع الأقتصاد الأمريكي حيث قد يصل الاقتصادين للتعادل بحلول عام 2030، وهذا سيؤدي لإيجاد قطب اقتصادي سياسي جديد في العالم مما يؤدي لتشكل نظاماً عالمياً جديداً، حيث ان الصين كانت هي المستفيد الأكبر من جائحة كورونا كما ستكون المستفيد الأكبر من الحرب على أوكرانيا، فالصين ستكون المتنفس الوحيد لروسيا من العقوبات وبالتالي ستحصل على النفط والغاز بأسعار مخفضة كما ستكون السوق الروسية مفتوحة على منتجاتها حصريا، إضافة لأن الركود الاقتصادي في أوربا وبطء النمو في الولايات المتحدة سيدفعان برؤوس الأموال للهجرة نحو الصين التي لا تشترك في العقوبات وتتخذ موقف شبه محايد، كذلك الكثير من الدول النامية ستستفيد من تدفق رأس المال القادم من الدول الغربية لنفس السبب.
  5. النفط والغاز سيبقى مرتفعا للخمس سنوات القادمة بسبب تغير الأولوية من دعم الطاقات المتجددة والسيارات الكهربائية نحو التسلح وتحمل تكلفة العقوبات الاقتصادية التي سيعاني منها الحلفاء الغربيون أضافة لارتفاع سعر القمح والكثير من المواد الخام والمعادن بسبب عزل الاقتصادين الروسي والأوكراني.
  6. ستشهد الدول الغربية موجة من الاستثمار في مجال الذكاء الصناعي والتكنلوجيا المتقدمة في محاولة لتعويض الخسائر الاقتصادية ولأجل تحقيق اختراق في الأزمة مع روسيا لتقليل الاعتماد على المواد الخام.

وإجمالا فالعالم بعد هذه الحرب سيدخل مرحلة جديدة تبرز فيها نخب جديدة وسياسيون جدد ونظام عالمي جديد يعقب نظام العولمة والقطب الواحد وفكر جديد يستبدل الليبرالية الجديدة.


مشاهدات 1506
أضيف 2022/03/02 - 5:09 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 2168 الشهر 65535 الكلي 7984283
الوقت الآن
الجمعة 2024/4/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير