في هذا المقال، نستعرض موضوعاً من أهم ما يكون لكنه لم يحظى بما يستحق من الإهتمام لأن الناس تأخذه وكأنه شيء بديهي. سنتحدث عن معنى النقود، ودورها في الاقتصاد، وماهي استخداماتها ضمن مواضيع أخرى.
هل يمكن للاقتصاد أن يعمل بلا نقود؟
هنالك أمثلة تاريخية عن اقتصاداتٍ تبادل فيها الناس البضائع والسلع مقابل بضائع وسلع أخرى. في العراق، على سبيل المثال، كان البدو حينما يأتون إلى المدن يبادلون منتجاتهم من السجاد والصوف والمنتجات الأخرى مقابل المنتجات الحضرية مثل التبغ والسكر والرز وغيرها. لكن الاقتصادات الحديثة تستخدم النقود للقيام بالتبادلات التجارية. تُعرّف النقود بأنها أي أصلٍ يملكه الناس ويتقبله الآخرون مقابل البضائع والسلع التي يبيعونها أو يستخدمونها للتبادلات المالية. والأصلُ هنا هو كل شيء ذو قيمة يملكه شخص أو شركة.
نظام المقايضة واختراع النقود:
من أجل فهمٍ أفضل لأهمية النقود دعونا ننظر الى حالة اقتصادٍ لا يستخدم النقود. تسمى الاقتصادات التي يتم فيها تبادل البضائع والسلع مقابل بضائع وسلع أخرى، اقتصادات المقايضة. لهذه الاقتصادات أوجه قصورٍ أساسية كبيرة. يحتاج تبادل البضائع والسلع في هذه الاقتصادات أن يكون هناك وجود رغبة تبادلية ثنائية. أي، بمعنى أنك تحتاج ما لدى الشخص الآخر وفي الوقت ذاته يحتاج الشخص الأخر ما لديك أنت. قد يأخذ الأمر وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً من قبل الناس لكي تتحقق تلك الرغبة التبادلية الثنائية. يجعل ذلك الأمر نظامُ المقايضة نظاماً غير كفوء ويحدُ من التبادلات التجارية وبالتالي يحدُ من حجم الاقتصاد بشكلٍ كبير. وعليه، فليس من المستغرب أن تعيش الشعوب التي تستخدم هذا النظام في حالةٍ اقتصادية يُرثى لها.
من أجل التخلص من المشاكل المرتبطة بنظام المقايضة، فإن للمجتمعات حوافز لإيجاد سلعة يقبلها أغلب الناس مقابل ما يتبادلونه من سلعٍ وبضائع. على سبيل المثال، استخدم العراقيون الذهب والفضة كوسيلة لتبادل البضائع والسلع قبل أن يتطور مفهوم النقود الحديثة. تاريخياً، عندما يبدأ قبول سلعة معينة كنقود بشكلٍ واسع، سيبدأ الناس بقبولها حتى لو لم يكن لديهم استخدام آخر لها.
يُصبح بيع وشراء البضائع والسلع أسهل بكثير عندما تكون النقود متوفرة. يحتاج الناس فقط لبيع ما يمتلكونه مقابل النقود ويستخدمون تلك النقود لشراء ما يريدونه. عندما تكون النقود متوفرة، فمن المرجح بشكلٍ كبير أن تتخصص العوائل في إنتاج أشياء محددة وليس إنتاج كل ما تحتاجه.
في الاقتصادات الحديثة يكون الناس مُتخصصين بشكلٍ كبير. يُنتجون شيء واحد فقط، كأن يكون الشخص طبيباً، أو معلماً، أو محاسباً، ويستخدمون النقود التي يحصلون عليها من عملهم لشراء كل ما يحتاجونه. يصبح الناس أكثر كفاءة في الإنتاج عندما يتخصصون لأنهم سيحققون الأفضلية النسبية في الإنتاج.
الدخول العالية التي يحققها الناس في الاقتصادات الحديثة متأتية من التخصص في الإنتاج الذي جعله وجود النقود ممكناً. وعليه فإن الجواب على سؤال لماذا نحتاج النقود، هو أنها تجعل التبادل التجاري سهلاً وتمنح الناس فرصة لأن يتخصصوا ويصبحوا أكثر إنتاجاً ويحققوا دخولاً أعلى.
وظائف النقود:
أي شيء يتم استخدامه كنقود، مثلا الذهب، أو الملح في شمال افريقيا أو السجائر في السجون أو الدينار أو الدولار لابد ان يقوم بأربع وظائف:
تخدم النقود وظيفة وسيط التبادل عندما يكون البائعون مستعدين لقبولها مقابل البضائع والسلع التي يبيعونها. عندما يقبل محل بيع المواد الغذائية ورقة نقدية مقابل بعض الخبز والحليب، فان تلك الورقة تعمل كوسيط تبادل. من خلال وسيط التبادل يمكن للناس بيع البضائع والسلع مقابل النقود واستخدام النقود لشراء ما يريدونه. يُصبح الاقتصاد أكثر كفاءة عندما يتقبل الناس سلعة واحدة كوسيط تبادل للبضائع والسلع.
في نظام المقايضة، تملك كل سلعة عدداً كبيراً جداً من الأسعار. ربما يكون سعر البقرة خمسون دجاجة، أو 200 بيضة، أو 2 طن من القمح أو أشياء أخرى. عندما يتم استخدام سلعة واحدة كنقود، سيكون لكل سلعة سعرٌ واحد بدلاً من أسعارٍ متعددة. تمنح وظيفة النقود هذه، البائعون والمشترون وحدة قياس، أي وسيلة لقياس قيمة السلعة في الاقتصاد باستخدام النقود. ولأن الاقتصاد العراقي يستخدم الدينار كنقود، فإن كل البضائع والسلع لها سعرٌ محددٌ بالدينار.
تسمحُ النقود للناس لخزن قيمة ما يملكون من النقود بالنقود نفسها. أي أنك لو لم تصرف نقودك كلها لشراء بضائع وسلع، يمكن لك أن تبقي جزء من النقود معك لاستخدامها في المستقبل. ليست النقود فقط هي ما يمكن أن تكون خزيناً للقيمة. يمكن لأي أصلٍ ذا قيمة، مثل قطعة أرض، أو لوحة فنية، أو قطعة سجاد، على سبيل المثال أن يكون خزيناً للقيمة. تملك الأصول المالية، مثل الأسهم والسندات فائدة مهمة مقارنة بإبقاء النقود كخزين قيمة لأنها تحقق فوائد أعلى أو ربما تزداد قيمتها في المستقبل. كذلك تملك أصول أخرى أفضلية على النقود في هذه الوظيفة لأنها تقدم بعض الخدمات: منزلك مثلاً يقدم لك خدمة الإسكان. إذن، لماذا يُبقي الناس بعض النقود معهم؟ الجواب وببساطة هو السيولة، أي سهولة تحويل الأصول إلى وسيط تبادل. ولأن النقود تعمل كوسيط تبادل بشكلٍ مباشر فإنها الأصل الأكثر سيولةً على الإطلاق. إذا أردت أن تشتري شيئاً ما وتحتاج أن تبيع أصلاً تملكه للقيام بذلك فمن المحتمل جداً أن يكلفك ذلك بعض الكلف. على سبيل المثال، لو أردت أن تشتري بيتاً وأردت أن تبيع معمولاتٍ ذهبية تملكها العائلة فقد تضطر لبيعها بسعرٍ أقل الآن. لتجنب مثل هذه التكاليف يكون الناس مستعدين لإبقاء قسم من ثرواتهم على شكل نقود. هنالك مشكلتان، على الأقل، في استخدام النقود كخزين قيمة. أولهما أن النقود تفقد شيئاً من قيمتها بمرور الزمن بسبب التضخم. وثانيهما، هنالك مخاطرة فيزيائية مثل الحريق، والسرقة، أو ربما الفئران.
النقود ذات فائدة لأنها توفر معيار للدفعات المؤجلة في مسائل الاقتراض والإقراض. يمكن لها أن تسهل التبادلات في لحظة زمنية معينة من خلال توفير وظيفة وسيط تبادل ووحدة قياس. لكنها أيضاً يمكن أن تسهل التبادلات عبر الزمان عن طريق توفير وظيفة خزين قيمة ومعيار دفعات مؤجلة. على سبيل المثال، يمكن لك أن تشتري سيارة اليوم وتدفع قيمتها أقساط مؤجلة على فترة من الزمن بالنقود.
ما هي أهمية كون النقود تعمل كخزين قيمة ومعيار دفعات مؤجلة يعتمد عليه؟
يهتم الناس بما تستطيع دنانيرهم أن تشتريه من الغذاء والملابس والسلع والبضائع الأخرى. بمعنى آخر، تعتمدُ قيمة النقود على قوتها الشرائية، أي قدرتها على شراء البضائع والسلع. يسببُ التضخم انخفاضاً في القدرة الشرائية للنقود لأن ارتفاع الأسعار يجعل الكمية نفسها من النقود قادرة على شراء بضائع وسلع أقل. عندما يصل التضخم إلى مستويات عالية جداً، تُصبح النقود خزين قيمة ومعيار دفعات مؤجلة لا يُعتمدُ عليه.
ما الأشياء التي يمكن استخدامها كنقود؟
عندما يكون هنالك شيء ما يمكن استخدامه كوسيط تبادل مما يجعل التبادلات التجارية أسهل، يمكن للاقتصاد أن يعمل بشكلٍ أكثر كفاءة. وعليه فإن السؤال هو، ما هي الأصول التي يمكن استخدامها كوسيط تبادل؟ وكما أشرنا سابقاً أنه لكي يمكن استخدام أي شي كنقود لابد من أن يكون، على الأقل، مقبولاً بشكلٍ عام كوسيلة للدفعات المالية. لكن عملياً هنالك متطلبات أخرى.
هنالك خمسة معايير لأي أصل كي يمكن استخدامه كوسيط تبادل:
الدينار العراقي له هذه الصفات. ما الذي يجعل الدينار العراقي مقبولاً كوسيط تبادل؟ ببساطة، ينبع ذلك من التوقعات الشخصية. أنت تعتبر أي أصلٍ بمثابة نقود إذا كنت تؤمن أن الآخرين سوف يقبلونه مقابل ما يعطونك من بضائع وسلع. قبول المجتمع لإستخدام الدنانير كنقود هو ما يجعلها مقبولة كوسيط تبادل.
من هنا تبرز الحاجة للتفريق ما بين أنواع النقود المختلفة. نركز هنا على نوعين من النقود.
وهي أصولٌ تملك قيمة ذاتية منفصلة عن استخدامها كنقود. على سبيل المثال، للذهب قيمة في صناعة المجوهرات، وحشوات الاسنان، والأهم في صناعة الألكترونيات الدقيقة. لكن استخدام الذهب كنقود يتضمن مشكلة كبيرة. سيواجه عرض النقود صعوباتٍ جمة بالنسبة للحكومة للسيطرة عليه لأنه يعتمد على كميات الذهب الموجودة أو التي يتم اكتشافها.
سيكون الاقتصاد ليس بالكفاءة المطلوبة لو اعتمد على الذهب كنقود. سيكون نقل كميات الذهب من أجل إستخدامها كوسيط تبادل للمعاملات التجارية صعباً وخطراً و مكلفاً. من أجل تجنب ذلك، بدأ الناس في بريطانيا وبحلول عام 1500 بتخزين الذهب لدى الصاغة وبدأ الصاغة بإصدار أوراق تُثبت ملكية حاملها لكمية معينة من الذهب. أخذ الناس بتبادل هذه الأوراق لقضاء حاجاتهم من المشتريات. انتبهت الحكومات والشركات في أوربا للأمر وبدأت بإصدار وثائق يمكن إعادة شرائها مقابل الذهب. طالما امتلك الناس ثقة بأن الذهب الذي يدعم تلك الأوراق موجود ومتوفر عندما يطلبونه، بقيت تلك الوثائق في التداول كوسيط تبادل. في واقع الأمر، تم اختراع النقود الورقية.
في الاقتصادات الحديثة، يتم إصدار النقود الورقية من قبل البنك المركزي للدولة وهو أحد مؤسسات الدولة والمسؤول عن تنظيم عرض النقود. تأسس البنك المركزي العراقي عام 1947 بإرادةٍ ملكية وكان يسمى سابقاً المصرف الوطني العراقي لغاية عام 1956. في الوقت الحالي، لا يوجد بلد في العالم يصدر نقوداً ورقية مغطاة بغطاء الذهب. لا قيمة للنقود الورقية سوى أنها تُستخدم كنقود وعليه فهي ليست نقود سلعية. النقود الورقية هي عملة أصدرتها السلطة النقدية بقرار إعتبار الورقة عملة لا غير.
لو نظرت على الدينار العراقي لرأيت بعض الكلمات التي تقول "ورقة نقدية صادرة بموجب القانون،" أي أن البنك المركزي أصدر الورقة بشكلٍ رسمي لإستخدامها كنقود. ليس مطلوباً من البنك المركزي العراقي أن يستبدل الدينار بالذهب إذا أراد حامل الدنانير ذلك. الأوراق النقدية التي يصدرها الينك المركزي هي وثيقة قانونية في العراق، أي ان الحكومة العراقية تفرض قبولها من قبل الناس والشركات في تعاملاتهم وتسديد الرسوم الحكومية. على الرغم من كونها وثيقة قانونية، فإنها لن تكون ذات نفعٍ كبير لإستخدامها كوسيط تبادل ولن تعمل كنقود إذا توقف الناس عن قبولها بشكلٍ عام. المفتاح في قبول النقود هو أن الأسر والشركات تملك ثقة أنهم لو قبلوا هذه الأوراق مقابل السلع والخدمات التي يبيعونها فإنها لن تفقد قيمتها أثناء فترة إحتفاظهم بها قبل استخدامها مرة أخرى. بدون هذه الثقة لن تؤدي الأوراق النقدية وظيفتها كوسيط تبادل.
*استاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة ولاية كنساس، الولايات المتحدة الأمريكية.