تغيير الأماكن: الجائحة لن تنهي العولمة، لكنها ستعيد تشكيلها

*الدكتور مهند طالب الحمدي
 

لفتراتٍ من الزمن، بدت العدوى الاقتصادية أكثر تهديداً من العدوى المرضية. على الرغم من بدأ انتشار فايروس كورونا بشكلٍ رئيسي في الصين، إلا أن الضرر ظهر على طول سلاسل التوريد التي تُنتج سلع العالم، لا سيما السيارات والإلكترونيات الاستهلاكية. الصين هي ثاني أكبر مُصدّر لأجزاء التصنيع في العالم، لذلك عندما تم إغلاق المصانع في تلك البلاد، واجه المصنعون حول العالم تأخيرات في جداول انتاجهم في كل مكان. حتى قبل انتشار الفايروس في كوريا الجنوبية، أوقفت شركة هيونداي الإنتاج بسبب نقص الأجزاء المُستوردة. نصح المنتدى الاقتصادي العالمي (الذي يجسد لقاءه الشتوي السنوي في دافوس روح العولمة) الشركات بجعل أماكن الإنتاج أقرب للمستهلكين. 

مع انتشار الجائحة، لم تعُد مواقع الإنتاج مهمة كثيراً. لم يكن هناك مفر من انتشار الجائحة: شهد الاقتصاد العالمي انهياراً أعمق وأكثر تزامناً بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ. عانت بعض الأنشطة الاقتصادية الأقل عولمة مثل المطاعم ودور السينما ودروس اللياقة البدنية والخدمات الأخرى،  أكثر من غيرها. توقف الناس عن عبور الحدود أكثر من توقف مرور البضائع، وتم تأجيل مؤتمر دافوس 2021. ومع ذلك، فقد ترك الذعر حول تأثر سلاسل التوريد انطباعاً لن ينتهي.  بالنسبة للأعمال، وفر انتشار الجائحة دليلٌ إضافي على مخاطر حدوث اضطراب في الاقتصاد رغم بعد المسافات. بالنسبة للحكومات، يوفر ذلك الذعر المزيد من الأسباب للتركيز على الانتاج داخل البلاد. النتيجة هي تسريع التغييرات في العولمة التي كانت بالفعل في طريقها للتحقق والتمدد. 

تم تشكيل سلاسل التوريد العالمية وبلورة عملها خلال 25 عاماً بدءاً من منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى الأزمة المالية 2009-2007. ارتفع حجم التجارة الدولية وتغيرت طبيعتها. نمى حجم التجارة الدولية بمعدل ضعف سرعة نمو الناتج المحلي الاجمالي العالمي تقريباً، حيث أصبحت الأسواق الناشئة في آسيا متأصلة في حركة الاقتصاد العالمي. بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، نمت حصتها من الصادرات العالمية للعديد من الأجزاء المستخدمة في الإنتاج والسلع الرأسمالية من أقل من 10٪ إلى أكثر من 30٪. غالباً ما تتخصص البلدان بانتاج أجزاء من سلعٍ محددة، وليس السلعة كلها. تنتج تايوان وكوريا الجنوبية واليابان أشباه الموصلات لاستخدامها في صناعة الإلكترونيات الاستهلاكية. توفر الصين قطع الغيار لشركات صناعة السيارات الألمانية. أدى ظهور وتطور الحوسبة إلى جعل هذا التشابك المُعقد من سلاسل التوريد قابلاً للإدارة. جلبت العولمة سلعاً أرخص إلى العالم الغني، وبفضل ما أطلق عليه السيد بن برنانكي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، "تخمة الادخار العالمية"، أسعار فائدة منخفضة. كذلك تسببت في خسارة العديد من فرص العمل. ربما فقد حوالي مليون عامل أمريكي وظائفهم بسبب المنافسة الصينية.

شهد العقد الثاني من الألفية الجديدة نوعاً من الكبح للاقتصاد العالمي. ركدت التجارة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر. مع نمو الطبقة الوسطى في الصين، تزايد الاستهلاك المحلي في ذلك البلد من البضائع والسلع التي تنتجها. توقف نصيب الصين من الصادرات العالمية عن الارتفاع في عام 2015، بينما استمرت حصتها من الواردات العالمية بالنمو. وبسبب إزدياد الأتمتة في التصنيع، تقلصت الفوائد من جعل مواقع الإنتاج حيث تكون تكلفة العمال أرخص. أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي إلى زيادة التقلب في هوس المستهلكين بالبضائع والسلع، مما استلزم تسريع الإنتاج والشحن لإرضاء المشترين الذين قد ينفذ صبرهم. اشتغل اسلوب توصيل الأجزاء "في الوقت المناسب" بشكلٍ أفضل مع شبكة موردين أقرب لبعضهم البعض. سلطت الكوارث الأضواء على مخاطر الاقتصاد المتزايد بالتخصص. أدت كارثة تسونامي التي ضربت اليابان في عام 2011 إلى خفض إنتاج شركة تويوتا في الولايات المتحدة بمقدار الثلث تقريباً بسبب نقص القطع مُستخدمة في الإنتاج، بينما أغرقت الفيضانات في تايلاند المصانع التي تنتج ربع الأقراص الصلبة في العالم. بدأت الشركات تنظر إلى سلاسل التوريد الطويلة على أنها غير عملية ومحفوفة بالمخاطر. بدأت التبادلات التجارية تتركز في كتل إقليمية، وعليه أصبحت العولمة تتحرك ببطء.

عندما تم انتخاب الرئيس دونالد ترمب في شهر تشرين الثاني 2016، بدأت بوادر حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين. أدركت الشركات أنها تتعرض لمخاطر سياسية من تمدد "الوطنية الاقتصادية"، بقدر ما تتعرض له من مخاطر حصول اضطرابات في أماكن بعيدة. في عام 2019، حيث ارتفع متوسط ​​التعريفة الكمركية الأمريكية على الواردات الصينية من 12٪ إلى 21٪، وارتفعت التعريفة الكمركية بالاتجاه الآخر من 17٪ إلى 21٪، انخفضت حصة الولايات من الواردات والصادرات الصينية إلى أدنى مستوياتها في 27 عاماً. قامت الولايات المتحدة أمريكا بالالتفاف على قواعد منظمة التجارة العالمية ثم تحطيمها، حيث منعت تعيين قضاة في مجلس الاستئناف الخاص بمنظمة التجارة الدولية وبالتالي قدرتها على الفصل في النزاعات التجارية. في أوروبا، صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في شهر حزيران 2016. شعر العديد من القادة الأوروبيين بالإحباط من حركة الأسواق  المتحررر بشكلٍ كبير من القيود، وأصبحوا يتمنون أن يكون لديهم منشآت وطنية يمكنها التنافس مع الشركات الصينية العملاقة المدعومة من قبل الدولة.

تقول السيدة سوزان لوند من مؤسسة ماكينزي الاستشارية، إن الضربة التي سببتها جائحة فايروس كورونا جعلت سلاسل التوريد "موضوعاً  للصراع على مستوى الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة". وتضيف إنه حتى هذا العام، لم تكن العديد من الشركات تُدرك مدى اعتماد سلاسل التوريد الخاصة بها على الصين. في استطلاع أجرته مؤسسة ماكينزي في شهر آيار الماضي، أفادت حوالي 93٪ من الشركات عن وجود خطط لديها لجعل سلاسل التوريد أكثر مرونة. وجد إستطلاع مؤسسة ماكينزي أن هناك 180 منتج يمتلك فيها بلد واحد حصة أكثر من 70٪ من الصادرات وأشارت إلى أن من الممكن أن تغير الشركات مواقع إنتاج مابين 16% إلى 26% من سلع التصدير في السنوات الخمس المقبلة. الشركات قلقة ليس فقط بشأن الحروب التجارية والصدمات الأخرى، ولكن بشأن التأثير البيئي الذي تسببه ومعايير العمل، وتلك أمور يمكن مراقبتها بشكلٍ أسهل كلما كانت مواقع الإنتاج أقرب من حدود البلاد. 

منحت جائحة كورونا السياسيين فرصة لتعزيز وبث أفكارهم الحمائية. أعطت حقيقة إنتشار الفايروس من منطقة ووهان في الصين الرئيس ترمب عصا يحاول استخدامها لهزيمة الصين، ومؤسسة دولية متعددة الأعضاء، وهي منظمة الصحة العالمية، ليزدريها (وفي ذلك المسار بدأ بالانسحاب منها). حدث تصاعد في التدخل الحكومي لحماية الوظائف وإنقاذ الشركات. بحلول نهاية شهر نيسان، وافق الاتحاد الأوروبي على إعتماد مبلغ أكثر من 2.2 تريليون يورو ( حوالي 2.6 تريليون دولار) كمساعدات حكومية للشركات والأفراد. حتى قبل حدوث الجائحة، أرادت فرنسا وألمانيا تخفيف أنظمة منح المساعدات الحكومية للأعمال وقواعد المنافسة في أوروبا تحت عنوان تعزيز وتشجيع المُنتجين الوطنيين.

زمان الإعتماد المُتبادل

لقد أدرك السياسيون أيضاً مدى اعتماد أنظمة الرعاية الصحية على التجارة. دفع نقص معدات الحماية الشخصية في المجال الطبي العديد من الدول إلى تقييد أو منع تصدير هذه السلع وما شابهها. أعلن صندوق النقد الدولي وجود 120 من القيود الجديدة على الصادرات هذا العام. يوجد هناك تركز كبير في إنتاج العديد من السلع الطبية: تمتلك الصين حصة 60٪ أو أكثر من صادرات المضادات الحيوية والمهدئات والإيبوبروفين والباراسيتامول. أطلقت بريطانيا " مشروع الدفاع"، الذي ستحاول من خلال تطبيقه تقليل الاعتماد على الإنتاج الصيني للمنتجات المهمة من خلال تطبيق مزيج من سياسات إعادة التوريد وضمان أن تمر الإمدادات عبر دول صديقة.

لسوء الحظ، يزداد الانجذاب السياسي نحو مزيد من السياسات الحمائية خلال فترات الركود. عندما يقل الطلب الكلي في الاقتصادات، تصبح الحكومات راغبة أكثر في الإنفاق الذي يتسرب إلى خارج البلاد من خلال زيادة الواردات. أدت مثل هذه السياسات إلى تمدد فترة مدمرة من تطبيق السياسات الحمائية في ثلاثينيات القرن الماضي. كذلك ارتفع مستوى الحماية بعد الأزمة المالية 2009-2007. ومما زاد الطين بلة أن برنامج التحفيز الاقتصادي الصيني قد دعم مواصلة الإنتاج، في الوقت الذي قامت به حكومات العالم الغني بدعم دخول الأسر. يشير السيد براد سيتسر، الزميل في مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة أبحاث، إلى أن فائض الحساب الجاري الصيني، الذي كان يمر بمرحلة تقلص، قد إرتفع بشكلٍ مهول وغير مسبوق هذا العام. انتعشت صادرات الصين بقوة، وتوقفت التدفقات المالية إلى خارج البلاد من قبل السياح الصينين، وانخفضت أسعار السلع الأساسية، مما جعل الواردات أرخص. لو استمر الفائض التجاري للصين على مستوى ماكان عليه في شهر تموز الماضي لمدة عام، فإنه سيضيف ما يصل إلى 700 مليار دولار إلى ميزانية الصين، وهو أمر يكفي بالتأكيد لتفاقم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة حتى لو حل السيد جو بايدن محل الرئيس ترمب في البيت الأبيض. 

يبدو أن ما يحدث اليوم في الاقتصاد العالمي يمثل مزيجاً من التقاء القوى التي تؤثر على التجارة العالمية: التباطؤ العضوي، والحروب التجارية، والشك في قدرات سلاسل التوريد، لدرجة أن البعض بدأ بمقارنة مايحدث الآن وماحدث في أوائل القرن العشرين. في ذلك الوقت انهارت ذروة العولمة تحت وطأة الحرب العالمية الأولى والأنفلونزا الإسبانية وبعد ذلك حدوث الكساد العظيم في الثلاثينيات.

هذه مقارنة مُتشائمة للغاية. لم يكن مستوى التبادلات التجارية بالسوء الذي كان العام يخشى أن يحصل. في شهر نيسان الماضي، توقعت منظمة التجارة العالمية أن تنخفض تجارة السلع بنسبة مابين 13% و 32٪ هذا العام؛ ولكن يبدو أنه من المرجح أن يكون الإنخفاض 10٪ فقط. يقول صندوق النقد الدولي إن التراجع في التجارة سيكون متناسباً مع تراجع الطلب بسبب الركود. وهذا أمر على النقيض مما آلت إليه الأمور بعد تداعيات الأزمة المالية العالمية 2009-2007، عندما انخفضت التبادلات التجارية بأكثر مما تشير إليه علاقتها المُعتادة مع الناتج المحلي الإجمالي. وكذلك نرى أن سلاسل التوريد العالمية لم تنهار بالكامل. يُحاجج السيد سيباستيان ميرودوت من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن وجود سلاسل التوريد كان حاسماً في مسألة الإستجابة للنقص الحاصل في معدات الحماية الشخصية الطبية في معظم البلدان الغنية. أصبحت كوريا الجنوبية، التي كانت تصدر الملايين من عدد الاختبارات الطبية إلى أوروبا والولايات المتحدة، في وضعٍ مُتفرد وجديد من أجل تكثيف الإنتاج من خلال استخدام سلاسل التوريد الموجودة فعلاً والعلاقات القائمة.

إن منطق إعادة توجيه الانتاج إلى داخل البلاد كإستجابة لانتشار الجائحة منطقٌ غير ذا أسس صلبة. أشارت دراسة حديثة أعدها الأستاذ بارتيليمي بوناديو، أستاذ الاقتصاد في جامعة ميشيغان والأستاذ زن هيو أستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، والأستاذ أندريه ليفتشينكو أستاذ الاقتصاد في جامعة ميشيغان، والأستاذ نيتايا باندلالي-نايار أستاذ الاقتصاد في جامعة تكساس-أوستن، حيث قاموا بدراسة 64 بلد، إلى أن ربع الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي هذا العام قد تلاشى عبر سلاسل التوريد حول العالم، لكن إعادة توزيع مناطق إنتاج الإنتاج لم يكن ليقلل من الضرر. يُميز السيد ميرودوت من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مابين فعالية سلسلة التوريد (القدرة على الاستمرار في العمل خلال الأزمة)، عن مرونتها (القدرة على العودة للعمل بعد تأثير الأزمة). يُشير تاريخ سلاسل التوريد إلى أنها ليست فعالة جداً لكنها مرنة، لأن الشركات تسارع في إيجاد حلول بديلة. من الممكن تحسين فعاليتها، ولكن ليس من خلال إعادة مواقع الإنتاج إلى داخل الدولة، حيث يمكن أن تحدث الكوارث داخل البلاد أيضاً. تُحاجج السيدة  شانون أونيل من مجلس العلاقات الخارجية، إنه لو كانت نيويورك مركزاً لإنتاج الأقنعة الطبية عندما ضربت جائحة كورونا، لكانت النتيجة هي حصول "فوضى كبيرة حقيقية".

قد تختار الحكومات تجاهل كل هذه الحقائق من أجل تطبيق السياسات الحمائية. لكن معظم الشركات ليست على وشك التخلي عن استثماراتها عبر الحدود. أظهر استطلاع أجراه مجلس الأعمال الأمريكي-الصيني تغيراً طفيفاً في عدد الشركات الأمريكية التي تقول إنها خرجت أو تخطط للخروج من الصين. يشير صمود "المرحلة الأولى" من الاتفاق التجاري بين الصين والولايات المتحدة الذي تم إبرامه في عام 2019 إلى أنه حتى إدارة الرئيس ترمب تعرف أن هناك حدوداً للرغبة لدى المستثمرين لفصل عُرى العلاقات مع أسواق الصين. بدلاً من تحقيق الانقطاع الشامل، فإن من المرجح أن يتسبب إنتشار فايروس كورونا في تعجيل عمل القوى التي تتحرك حول العالم بالفعل. ستتحول الشركات للقبول بالتخلي عن القليل من الكفاءة من أجل الحصول على مزيد من الفعالية، مع وجود الإدراك بأنه على المدى الطويل، قد تؤدي زيادة أتمتة التصنيع إلى مزيد من الإنتاج المحلي على أي حال. ستعمل الحكومات على تقصير وتنويع سلاسل التوريد للمعدات الطبية. لكن الولايات المتحدة والصين ستقومان بالتبادل التجاري تحت ظلال سحابة مظلمة من الشك المتبادل، مما سيؤدي إلى تحقيق توازن بين المصالح التجارية والجيوسياسية.

علاوة على ذلك، فإن مستقبل العولمة سيتحدد بشكلٍ أقل من تجارة السلع مقارنة بما تحدده تجارة الخدمات. قبل حدوث جائحة كورونا، لم تكن تجارة الخدمات تعاني من البطء في التداول: كانت تنمو أسرع من نمو الناتج المحلي الإجمالي. تمثل صادرات الخدمات حوالي خُمس إجمالي التجارة العالمية، حسب إحصائيات منظمة التجارة العالمية (على الرغم من أن ما يُعتبر بالضبط تجارة خدمات هو موضوع بعض النقاش). وكحال تجارة السلع، عانت تجارة الخدمات كثيراً هذا العام بسبب انهيار حركة السياحة. لكن من غير المرجح أن يفقد المستهلكون رغبتهم في السفر بشكلٍ مفاجئ، وليس لدى البلدان حوافز كبيرة لإغلاق الحدود إلى آجالٍ طويلة أمام السياح. يبدو أن من المرجح أن تنتعش السياحة في نهاية المطاف.

في الوقت نفسه، فإن زيادة الاستثمار في العمل عن بُعد خلال عام 2020 الباب قد تفتح لمزيدٍ من التجارة في الخدمات الرقمية. عندما يتم تنفيذ العمل عن بُعد، فليس من المهم أين يكون مكان إنجازه. من ناحية النظرة المستقبلية، ينطوي هذا الأمر على التواجد عن بُعد. في حين كان تصدير خدمات الصيانة والتصليح يتطلب في السابق وجود مهندسين ذوي مهارات عالية يعبرون الحدود الفيزيائية للبلدان، فإن تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز تسمح الآن لذوي الخبرة في بلدٍ ما من مساعدة العمال الأقل مهارة على إصلاح المكائن والآلات في بلدٍ آخر، كما تقول السيدة لوند من مؤسسة ماكينزي الاستشارية. يشيرالأستاذ ريتشارد بالدوين من معهد الدراسات العليا في جنيف إلى إمكانية قيام العمال في البلدان الفقيرة بتنفيذ مهام مكتبية أساسية للشركات في العالم الغني عن بُعد. قبل إنتشار الجائحة، كانت منظمة التجارة العالمية تتحدث بالفعل عن إمكانية زيادة التجارة في قطاع الخدمات الرقمية، وتوقعت أنه إذا اعتمدت البلدان النامية التقنيات الرقمية، فسيُمكنها ذلك من تحقيق حصة أعلى في مجال تجارة الخدمات الدولية.

من الصعب تحرير تجارة الخدمات لأنها تتعلق في الغالب بمسألة تنسيق اللوائح والأنظمة بين البلدان المُتاجرة بها. تمتلأ قطاعات كثيرة مثل التعليم والرعاية الصحية والمحاسبة والتمويل بالعوائق التي تحول دون حصول التبادل وكذلك وجود القوانين الوطنية المختلفة لإعتماد الشهادات. يمكن إعتبار قطاع تكنولوجيا المعلومات في الهند واحداً من أنجح نماذج الخدمات المقدمة عن بُعد، حيث يواجه هذا القطاع عدداً قليلاً من العقبات التنظيمية. لكن الخلافات حول تدفق البيانات عبر الحدود وفرض الضرائب على عمالقة شركات الإنترنت تنذر بتهديد حصول التكامل الرقمي بالسرعة المطلوبة. تتركز التجارة الرقمية، مثل التجارة في السلع، بشكلٍ متزايد في مناطق الكُتل التجارية الإقليمية. ومع ذلك، يُحاجج السيد بالدوين من معهد الدراسات المُتقدمة في جنيف بأن نمو تجارة الخدمات عبر الإنترنت سوف يتجاوز التوترات بين الشرق والغرب، لأنه سيحدث ضمن مناطق التوقيتات الزمنية المُشتركة: ستوفر دول أمريكا الجنوبية خدمات رقمية رخيصة لدول أمريكا الشمالية، ودول أفريقيا إلى دول أوروبا، ودول جنوب شرق آسيا إلى دول شمال شرق آسيا.

يمكن أن تساعد الرقمنة المتزايدة التي أحدثتها جائحة كورونا في نمو تجارة الخدمات، على الرغم من استمرار تباطؤ تجارة السلع. لكن مدى هذه المساعدة سيعتمد على مدى تأثير الجائحة في إعادة تشكيل أسواق العمل، وهو موضوع الصفحة القادمة في تاريخ تطور العولمة.

أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة ولاية كنساس، الولايات المتحدة الأمريكية*


مشاهدات 993
أضيف 2020/11/24 - 11:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1657 الشهر 65535 الكلي 7645597
الوقت الآن
الجمعة 2024/3/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير