ركود الأجور في عصرالثورة الرقمية
مظهر محمد صالح

بعد ان دبت في انفاسه حركة نشاط شاملة من دون ان يعصف به الغضب ظل سالم زميلي في العمل يسألني باصرار: كيف تفسر لي ايها الرجل الاقتصادي ان 69 بالمئة من البالغين في الولايات المتحدة الاميركية لا يدخرون حالياً سوى اقل من 1000 دولار وان 39 بالمئة منهم قاربت مدخراتهم الصفر في دولة تزدهر فيها التكنولوجيا الرقمية وتقود الثورة الصناعية الرابعة، بعدها علت على وجه سالم ابتسامة باهتة ونظرة ثاقبة وهو يتابع تفاصيل الثورة الرقمية ثم غادرني كشبح ذاب في الظلام وهو يكلم نفسه بصمت ناطق ويسترد الثقة وصفاء الذهن قائلاً : لم افهم ماذا يجري في العالم الراسمالي اليوم فمعدل العائد على راس المال هو اكبرمن معدل النمو الاقتصادي في البلدان الصناعية!!.

توزيع الثروة

قلت في سري ثمة نقيضين في اللامساواة في توزيع الثروة على الصعيد العالمي لم يطرقهما سالم ،الاول يعود الى الكاتب الفرنسي ثوماس بيكتي في كتابه الشهير راس المال في القرن الحادي والعشرين ،الصادر في باريس في العام 2014 الذي عزا حالة اللامساواة في توزيع الثروة الى ظاهرة نمو العائدالراسمالي وتركزاته بنحو يفوق النمو في الناتج المحلي الاجمالي السنوي بسبب اختلال عملية توزيع الدخل واشتداد الاستلاب على المستوى العالمي بسبب قوة الظاهرة الريعية العالمية.

في حين يرى النقيض الثاني وهو الجانب الداكن من موضوع اللامساواة بان التكنولوجيا الرقمية هي نذير شؤم وبؤس وانها ستقود العالم الى مستقبل يقتصر فيه الاجر العالي على النخب المتعلمة تعليماً متقدماً او ذات المهارات المتخصصة وهم وحدهم دون غيرهم من العاملين الذين سيتمكنون في الحصول على فرص العمل. اذ يصف الكاتب الاميركي تايلر كوين في كتابه 2013 (نهاية الطبقة المتوسطة:استقواء اميركا قد تخطي عصر الكساد العظيم) واصفاً كيف التهمت اميركا فاكهتها من الاغصان القريبة المتدلية عبر التاريخ الحديث او بالاحرى :كيف اعتُقلت نتائج التنمية وتمت مصادرتها من اواسط المشتغلين .

هنا يقترب تايلر كوين من نتائج توماس بيكتي الذي شخص بان اللامساواة الحالية في الدخول تضفي بظلالها على ثروات طائلة تتوارثها قوى ربحية غير أجرية.

وعلى الرغم من ذلك، فقد اشر التاريخ الاقتصادي لعصر الماكنة بان اجور المشتغلين في انكلترا والولايات المتحدة الاميركية قد تحسنت في نهاية المطاف بنحو عشر مرات خلال المئتي عام الاخيرة (بعد استبعاد الاثر التضخمي).

وكأن التكنولوجيا في عصور ماقبل الثورة الرقمية هي المسؤولة عن تعاظم المدفوعات الاجرية، في حين امست التكنولوجيا الرقمية اليوم هي المسؤولة عن تعاظم البطالة وانخفاض مستويات الاجور وركود معدلاتها.

وهنا سيظل زميلي سالم يتساءل: كيف يواجه العالم ثورة المخترعات وانقضاض التكنولوجيا الرقمية على فرص العمل والاجور والتحول الى مستقبل تسوده فجوة اقتصادية عميقة بين النخبة المتعلمة الرقمية وبقية الناس؟.

هنا جاءت الاجابة على لسان استاذ الاقتصاد جيمس بيسن في كتابه الصادر عن جامعة ييل الاميركية في العام 2015 والموسوم :(التعلم اثناء العمل:العلاقة الحقيقية بين الابتكار والاجور والثروة). اذ يؤشر جيمس بيسن في كتابه آنفاَ مؤكداً ان نمط الاجور في آلية استقطابها او انتقالها نحوالنخب العالية التعليم او المهارة في عصر الثورة الرقمية الراهن هو شيء قد مر به العالم في العصرالصناعي السابق اي عصر المكننة.

كما مر العالم بفترات طويلة فشلت فيها التكنولوجيا المتقدمة كتطبيق عملي للمعرفة في توفير منافع جوهرية للطبقة العاملة، اذ ظلت الاجور الصناعية ولعقود طويلة منذُ بدء الثورة الصناعية راكدة حقاً على الرغم من ان الثورة التكنولوجية الميكانيكية وقت ذاك قد ضاعفت من انتاجية العامل الواحد.

تنامي الارباح

قد تولدت ثروات طائلة ولكنها ذهبت الى جيوب المستثمرين وكبار المديرين والى القليل من العمال المهرة، فالارباح تنامت واللامساواة ازدادت دون ان تحدث للعاملين مكاسب كثيرة، ولكن على الرغم من ذلك بدأ هذا الاتجاه ينعكس، اذ أخذت المدفوعات الاجرية للعمال غير الماهرين او الاقل تعليماً تتزايد بشكل جوهري وبدأ العاملون يحصلون على حصة اساسية من منافع التكنولوجيا الجديدة بسبب التعليم اثناء العمل، بغض النظرعن قوة التنظيم النقابي ودور النقابات والتنظيمات الاجتماعية في احلال عدالة التوزيع وضمان الحد الادنى للاجور.

وهكذا فثمة افتراق صارخ بين نظرية توماس بيكتي 2014 في كتابه راس المال في القرن الحادي والعشرين(الذي يعزو تراكم الثروات الطائلة بيد القلة بسبب الميول الريعية القوية في الاقتصاد العالمي كما ذكرنا سالفاً واثر ذلك على حرمان الدخل العادل وتجريده من العمال غير المهرة او الاعتياديين) وبين الكاتب جيمس بيسن 2015 الذي يعزو تراكم الثروات الى اثر التكنولوجيا على دخل العمال العاديين في توليد اللامساواة في الدخول والثروات، اذ يرى جيمس بيسن ان ركود الاجور في اوقات تعاظم الارباح بسبب التحولات التكنولوجية وانعطافاتها الحادة يسهم في توليد الثروات غير العادلة.

ومع ذلك فأن تراكم الثروات لايقيد نمو الاجور بالضرورة، ففي الماضي الصناعي حفزت التكنولوجيا الاجور بشكل مفاجئ حتى في ظل اوقات اشتداد وتعاظم حالات اللامساواة، ولكن يبقى التساؤل :كيف تؤثر التكنولوجيا في اوضاع القوى العاملة الاعتيادية؟.

هنالك خلط بين التكنولوجيا والمخترعات من جهة وبين المهارة والتعلم من جهة اخرى، فالتكنولوجيا الحديثة اليوم هي بحاجة الى شيء هو اكبر من الاختراع نفسه كي يتم تصميمها وبناؤها وتشغيلها والمحافظة عليها، فقد لوحظ ان الكثير من التكنولوجيات قد تطورت خارج الفصول الدراسية في المعاهد والجامعات ولكن اثناء العمل!

اذ يؤشر التاريخ الاقتصادي للصناعة ان مهارات العاملين قد اكتسبت وتطورت اثناء العمل وليس بالقاعات الدراسية بالضرورة، مما يعني ان العاملين قد حصلوا على معارفهم ومهاراتهم العملية من خلال المزج بين التدريب الرسمي والخبرة، ما ولد لديهم الكثير من المعارف التقنية خلال العمل وعلى وفق مبدأ (التعليم اثناء العمل).

فالتجارب النظامية وغير النظامية سمحت للعاملين الحصول على مهارات جديدة ومعارف تكنولوجية مضافة، ففي العصر الميكانيكي السابق سمحت مهارات التعليم اثناء العمل للعاملين من ذوي التعليم المدرسي المنخفض بالحصول على اجور تماثل دخول الطبقات الوسطى. ففي بداية كل ثورة تكنولوجية جديدة، تصبح عملية اعادة تاهيل وتدريب الآف العاملين فرضية معقدة في مراحلها الاولى، فالمعارف التكنولوجية المبكرة هي شديدة التجزئة وتسودها حالة من اللايقين...وحتى يتم استيعاب صدمتها كقوة قياسية جديدة فأنها تأخذ ردحاً من الزمن.

طرازات الحياة

لذا فان قبولها المبكر في طرازات الحياة وانماطها أمر يجعل التعليم الجامعي كتكيف مسبق بالغ الصعوبة ...وحتى اسواق العمل نفسها هي ليست على استعداد لقبول من استثمر مجهوداته في التدريب، ولكي تقام مؤسسات السوق ويتحقق التدريب المؤثر فان الامر ياخذ اكثر من عقد من الزمن حتى ينتفع العمال العاديين من مهاراتهم التي تجاري التكنولوجيا الحديثة ويرتفع الاجر بما يتناسب والانتاجية،وهذا مايطلق عليه:بدورة حياة التكنولوجيا. لقد دخلت التكنولوجيا الرقمية وبشكل مفاجئ بكيانات تنظيمية وتجمعات تمزج بين الريادة والابتكار والانتاج واستقطاب المهارات وهي مايطلق عليها اليوم بـ: التغير الجذري الخلاق disruptive.

وهو مزيج بين الريادة الادارية والقدرة على الابتكار والمواهب لتوليد منتجات جديدة واسواق جديدة ضمن نظام اقتصادي ايكولوجي، وبهذا غدا التغير الجذري الخلاق قوة مؤثرة قوامها مجموعات عنقودية تكنولوجية منتجة تتركز في مناطق جغرافية مثل وادي سليكون في اميركا وتنتشر حول العالم والتي اصبحت مجال خبرة موفرة لفرص العمل في التكنولوجيا الجديدة ولاسيما الرقمية منها والتي تجني اليوم ارباحاً طائلة.

التكنولوجيا والعمل

على الرغم من ان التكنولوجيا لا تحل محل العمل ولكنها تولد طلباً على فرص عمل جديدة بمهارات جديدة، ولكن غالبية القوى العاملة لم تكن مهيئة للتكنولوجيا الحديثة وان الجامعات هي ليست الرافد الوحيد لتلك المهارات كما يعتقد الكثير، وهو الامر الذي ادى بغالبية العمال الاعتياديين بان يكونوا في حالة ركود اوعلى حافات البطالة او القبول باجور عمل متدنية في وقت يشكو فيه ارباب العمل بانهم لا يرغبون الا بعدد محدود جداً من العمال من الذين يتمتعون بمهارات عالية.

وقد اختلفت البلدان في رغبتها بتزويد العاملين بالحوافز للحصول على المعارف التقنية اثناء العمل وتمكين الاقتصاد من تحقيق مكاسب اجمالية لبلوغ القوة الاقتصادية، لقد سمح التذبذب بالرغبات في التصدي الى الدورات التكنولوجية وركود الاجور لبعض الامم بالانتفاع من التكنولوجيا الحديثة التي اخذت على عاتقها تبني سياسات ادت الى تنمية درجات عالية من الغنى وتقليل اللامساواة في الدخول والثروات. في حين انتفعت الدول الاخرى على نحو اقل ويلحظ على سبيل المثال ان الولايات المتحدة كانت من اكثر دول العالم تصدياً للدورات التكنولوجية في العصور الصناعية السابقة للعصر الرقمي الراهن ذلك من خلال اشاعة برامج تعليمية وتدريبية واسعة، اذ عُدت اميركا بموجبها الدولة الاولى في العالم بتبني سياسات فاعلة لمواجهة الركود التكنولوجي.

حيث وفرت سياسات التعليم والتدريب في الولايات المتحدة قوة عمل مؤهلة شجعت الطلب التقني الميسر لمقارعة البطالة التكنولوجية، الا ان قيام التشكيلات العنقودية الانتاجية في العصر الرقمي الراهن وولادة مايسمى اليوم بالتغير الجذري الخلاق كما اشرنا سلفاً وعده كقوى انتاجية تكنولوجية مُحتكرة كبيرة قد زاد من مشكلات ركود الاجور مرة اخرى وعَمق مايسمى بالدورة التكنولوجية بعد ان تغيرت السياسات نحو الاسوأ، مفضلة بذلك اقامة الشركات والمصالح الخاصة التي تبحث عن مهارات محدودة العدد بدلاً من دفع التكنولوجيات المتقدمة ومزاوجتها بقدر من تقليص اللامساواة عن طريق تحسين الاجور للعاملين العاديين من خلال برامج تطوير المهارات والتعليم اثناء العمل.

ختاماً، فالتلازم بين ركود الاجور وتعاظم الارباح امسى بحاجة ماسة الى سياسات حكومية تساعد على تطوير المهارات التقنية ذات الاساس الواسع وعد هذه السياسات واحدة من البرامج الاقتصادية في تحقيق المساواة في الدخول الثروات وتقليل الفوارق الداخلية والاجرية وباتجاهين:اولهما،تطوير مهارات العاملين الاعتياديين ولاسيما التعليم اثناء العمل، وثانيهما رسم وتطوير السياسات الحكومية المتصدية للدورات التكنولوجية وتضييق مساراتها وعد مثل هذه البرامج الحكومية وسائل جديدة في السياسة الاقتصادية المتجهة نحو تحسين توزيع الدخول والثروات من خلال تقليص فترة الدورة التكنولوجية ومقاومة ركود الاجور الذي يتعرض اليه الاقتصاد العالمي.

 

المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء العراقي

 

نقلا عن صحيفة "الصباح"


مشاهدات 5448
أضيف 2017/11/12 - 8:28 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 10134 الشهر 65535 الكلي 7635390
الوقت الآن
الخميس 2024/3/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير