الفارق بين مجتمع واقتصاد السوق


د. عبدالعظيم محمود حنفي *

أصبح علم الاقتصاد الحديث أهم العلوم السلوكية في عصرنا الحالي، مع نموذج الفرد الذي يقارن بين التكاليف والمزايا، ويعظم المنفعة الشخصية، ويستجيب للحوافز مع تزايد استخدام مصطلح «التحفيز» (incentivize) باعتباره النموذج المهيمن على جميع الأنماط الأخرى التي تصف السلوك البشري، لا سيما في هذا العالم الذي تتحكم فيه السياسة العامة.

وقد أحيت الأزمة المالية العالمية عام 2008 الشكوك التي طالما انتابت الناس حول الأسواق الحرة؛ حتى أن غير المتحيزين للتوجهات السياسية باتوا في حيرة من أمرهم عما إذا كانت الأسواق كما يدعي بعض المتحيزين للتوجهات السياسية، تنشر الجشع وتقطع الأواصر الاجتماعية. ولكن بعض المحللين الاقتصاديين يفرقون بين «اقتصاد السوق» الذي يحقق السلامة والرخاء للمجتمع و«مجتمع السوق». ففي مجتمع السوق كل شيء يمكن بيعه وشراؤه - الأعضاء البشرية، وزنزنات الدرجة الأولى في السجون للأثرياء المحكوم عليهم بالسجن، والعقود العسكرية للجنود المدنيين وفترات السماح للشركات بشأن انبعاثات الكربون. والأخطر من ذلك أن مجتمع السوق يسمح للمنطق الاقتصادي بالتغلغل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

ويرى هؤلاء أن هناك نتيجتين أساسيتين لمجتمع السوق: الأولى هي زيادة انعدام المساواة؛ ذلك أن إكساب النقود أهمية أكبر يجعل التفاوت بين الدخول دافعاً لانعدام المساواة الاجتماعية ويرون أن المشاركة في المساحات العامة، بما في ذلك المدارس والمنتزهات وصفوف الانتظار لدخول المسارح وطوابير التفتيش الأمني في المطارات. وإن كان لا يترتب عليها نشوء مشاعر تضامن صادقة، قد تعظم قيمة المساواة الديمقراطية. فماذا لو أن أحد الأثرياء من جماعة المصالح الخاصة في الكونجرس استأجر خدمات شخص ما ليحجز له دوراً في جلسات استماع الكونجرس أو إذا قام أحد كبار المديرين بالاستعانة بطبيب «تحت الطلب» يتقاضى منه رسماً ثانوياً باهظاً نظير ضمان حصوله على الرعاية الطبية الشخصية في الوقت الذي ينتظر فيه باقي المرضى دورهم في غرفة الطوارئ؟ 

وما الأثر الواقع على العلاقات الاجتماعية عندما يحظى إعلامي كبير بفرصة متابعة المباريات الرياضية الأمريكية من مقصورة فاخرة في أعلى الاستاد بعيداً عن المدرجات المكتظة بالجمهور؟ وقد يدافع المتحمسون للأسواق الحرة عن مثل هذا الانعدام للمساواة بأن كلا البائع والمشتري يتصرفان بحرية غير أن هؤلاء يردون على هذا المنطق بالتحذير من وجود دينامية أخرى. فالنقود في ظل عدم المساواة على وجه الخصوص قد تكون السبيل للحرية. ففي ظل حالة امرأة معدمة من الإصول الهندية تبيع خدماتها في مجال «استئجار الأرحام» على سبيل المثال، فإن الفقر يفرض عليها نوعاً من الإكراه.

أما الأثر الضار الثاني لمجتمع السوق فيتمثل في إفساد السلع والخدمات المعروضة للبيع، وهنا يعترض خبراء الاقتصاد قائلين إن السوق محايدة فيما يتعلق بالمعاملات الاقتصادية لكن هؤلاء المحللين يرون رأياً مخالفاً ويرون أن دور الأسواق لا يقتصر على توزيع السلع بل إنها تبدي مواقف معينة وتروج لها إزاء السلع التي تجري مبادلتها

وحين يصبح السعر والكفاءة السبيل الوحيد لتحديد القيمة فإنهما يزاحمان الدوافع الإنسانية الأعلى شأناً. ويرون أن هناك بعض الأشياء التي لا يمكن شراؤها بالمال مثلاً لا يمكن لشخص أن يستأجر من يحل محله في هيئة المحلفين - مثلاً - لان العمل ضمن هيئة المحلفين هو التزام وفق واجبات المواطنة لا يمكن ترجمته إلى قيمة نقدية.

وهناك اتفاق على توافق ظهور مجتمع السوق في الولايات المتحدة الأمريكية مع طفرة الأعمال الخيرية وريادة الأعمال الاجتماعية والعمل التطوعي المجاني أو بمقابل بسيط .

صحيح بأن انعدام المساواة وعيوب الشخصية هي من مساوئ مجتمع السوق لكنها عيوب ظلت ملازمة لكل المجتمعات على مدار الآف السنين حتى قبل أن يولد الاقتصادي البارز ميلتون فريدمان.



مشاهدات 1743
أضيف 2017/06/04 - 12:20 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 4217 الشهر 65535 الكلي 7838183
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/4/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير