الرأسمالية في طور العولمة

بغداد/الاقتصاد نيوز ...

د. مظهر محمد صالح

17/7/2016 12:00 صباحا 

اثارت بريطانيا ومنذ انتمائها الى الاتحاد الاوروبي في العام 1973 قضيتين اساسيتين ادت في نهاية المطاف الى ترجيح كفة دعاة الانفصال عن الاتحاد الاوروبي،  الذي اكده استفتاء 23 حزيرن الماضي  والذي اشرته قضيتان رئيسيتان شكلتا جوهر موضوع الانسحاب وهما:
اولاً : ان قوة الاتحاد النقدي الاوروبي الذي ظلت بريطانيا بعيدة عن الاندماج في تلك الوحدة النقدية الاوروبية ادى  الى اضعاف  القدرة التنافسية  للاقتصاد البريطاني وغلبة كفة المجموعة الاقتصادية لدول (منطقة اليورو) وان هذا الامر نجم بالغالب عن غياب التنسيق والتناغم الحقيقي بين السياسة النقدية للبنك المركزي الاوروبي والسياسة النقدية لبنك انكلترا وبلوغهما مرحلة ما يسمى بالتمانع المتبادل. 
ثانيا :ً  يتمثل موضوع الانسحاب  بمشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين الى الجزر البريطانية عبر اوروبا  ،اذ  يُقدر عددهم اليوم قرابة المليون مهاجر وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية وعرقية وتنافس غير مشروع في سوق العمل البريطانية. واللافت ان ذلك الانسحاب  بات متوافقا مع مطالب اجزاء اخرى من  اوروبا  بالانفصال عن الاتحاد الاوروبي نفسه، بل وبدأت تفجر اشكالات  دستورية واقتصادية ومؤسساتية سلبية رتبها الاستفتاء آنفا.
وازاء النزعة اليمينية  التي يقودها المحافظون  بالانسحاب من الاتحاد الاوروبي والتي تؤيدها قوى اليمين الاوروبي والاميركي علانية ، قد جعل من فكرة الكتل الاقتصادية الموحدة الكبرى وتطبيقاتها الراهنة ومستوى ارتباطها بتطور الراسمالية تحت مطرقة التفكيك،  بل ان العولمة الراسمالية المركزية نفسها غدت متخمة بفخاخ الشك واللايقين . فلاغرابة ان نشهد اليوم انطلاقات جديدة لمفهوم الدولة-الامة او الدولة- القومية تقودها قوى اليمين في الغرب الراسمالي بدلا من الدولة-السوق، فضلا عن الترويج للحركات  العنصرية  ضد المهاجرين من الشعوب الاخرى الى المركز الراسمالي الغربي والذين ينعتونهم بالغرباء، رافضين التعددية المجتمعية والانسجام الثقافي والحضاري بين البشر.فعلى الرغم من ان العصر الذي نحياه هو عصر المعلوماتية (اي الثورة التكنولوجية الرابعة-الثورة الرقمية والجينية) وهو بحق عصر التواصل السريع بين البشر داخل الدول والمجتمعات والشعوب. الا ان اشكالية التواصل الاقتصادية والمجتمعية داخل المنظومة الراسمالية العالمية على الرغم من سرعة وشائج علاقاتها،فانها لاتعني ان العالم قد غدا منصهراً في بودقة القرية الاقتصادية والمجتمعية الصغيرة، بل ان ثمة (اغترابا) مجتمعيا خطيرا يمتلك حواجز وفواصل وقيودا مضنية وسميكة يفرزها النظام الراسمالي نفسه وباستمرار وهي اقوى من الحدود السياسية بين الدول. 

عولمة قديمة

 فقدرة التواصل من الناحية التاريخية بين مناطق العالم، سواء بين الراسمالية المركزية في عهودها الماركنتالية او التجارية القديمة  والبلدان المحيطية كالمستعمرات وغيرها ، قد اطلق عليها بالعولمة القديمة .وهي في حقيقة الامر ليست عولمة،  بل هي نمط انتاج وعلاقات انتاج ووشائج وترابطات غير متكافئة داخل النظام الراسمالي العالمي ليس الا. ففقدان التجانس الاقتصادي والتكنولوجي وتكافؤ القوة والثروة بين مركز الراسمالية وبلدانها المحيطية منذ نشوء التراكم الاولي لراس المال لايمثل سوى دورة حياة النظام الراسمالي الساعي الى الربح وتركيز الثروات وتحويلها الى المركز الغربي  مهما تبدلت مراحله وتغيرت ثوراته التكنولوجية الاربعة  المتعاقبة. وبين الحقيقة والوهم،يبقى التساؤل القائم :هل ان الراسمالية المعولمة هي شيءٌ جديد ام مستحدث؟ ، يلحظ انه حالما وجدت الراسمالية (بظهور الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ونمط وعلاقات الانتاج الملازم لها) فانها اخذت بالانتشار عالمياً،.فالملاحون البحريون الذين قهروا المحيطات وواصلوا  رحلاتهم  من القارة الاوروبية باتجاه القارات الاخرى في القرنين الخامس والسادس عشر  هم  في حقيقة الامر قد رسموا خارطة الطريق لانتشار الراسمالية االتجارية كما يقول جيمس فولجر (في كتابه الموسوم :الراسمالية /اوكسفورد 2015 ) حيث انهم هيأوا سبل انتشار تلك الراسمالية الماركنتالية عالمياً.فالمثال على ذلك هو تطور التجارة الاطلسية البحرية الثلاثية الابعاد. اذ ابتدأت بصيد العبيد من على شواطئ غرب افريقيا و تولت نقلهم كقوة عمل منتجة مباعة في حقول ومزارع القارة الاميركية او منطقة البحر الكاريبي ،ولم تعد تلك السفن البحرية الى اوروبا الا وهي محملة بالسكر والخمور والقطن كثمن للعبودية  وقيمة ما قام بانتاجه اولئك الرجال والنساء المستعبدون .في حين اسهمت ثورة الاتصالات الاولى في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الهاتف وقوة الاتصالات  التي حطمت المسافات البعيدة واسهمت في  توليد نمط من التشابكات والعلاقات والاواصر التجارية والاقتصادية والبشرية ربما لا يختلف عن توجهات  العولمة الحالية ، رافقها تطور هائل في النقل بالسفن والقطارات من خلال اتساع استخدام قوة البخار باستعمال الوقود الاحفوري لتحريك دواليب السفن والقطارات وجعل نقل البضائع التجارية والمواد الخام من القارات البعيدة الى اوروبا واميركا اكثر يسرا واقل كلفة في القيمة والوقت.
وبهذا لم يختلف واقع النظام الراسمالي عبر تطوره كظاهرة ذات وشائج  وصلات مع مناطق العالم البعيدة منذ العصر الماركنتالي خلال تفكك القرن الوسيط وحتى الوقت الحاضر لكي يستمر التساؤل نفسه:هل الراسمالية هي ظاهرة معولمة بالطبيعة؟ يمكن القول ثانية ان عبارة الراسمالية المعولمة  غدت المنطلق او المكان المشترك  الذي على اساسه تعيد الراسمالية انتاج نفسها وصياغة اسسها ومنطلقاتها.فالمبالغ العملاقة التي تتدفق حاليا متنقلة بين اسواق العالم والتي تقدر بـ 5 تريليونات دولار يومياً هي واحدة من ظواهر هذه العولمة.في حين تمارس الشركات المتعدية الجنسية والمتعددة الجنسية ادارة نشاطات انتاجية في بلدان مختلفة تنتهي بتكامل المنتج الواحد في منطقة مختلفة من 
العالم.كما ان اسواق السلع والخدمات وكذلك اسواق عوامل الانتاج(العمل وراس المال) تتحد في توليد الانتاج على نقطة جغرافية واحدة بالرغم من تباعد المسافات بينها. 
هذه هي الحقائق التي تغلف الراسمالية المعولمة    وتؤثر في حياة الناس يومياً. ومع ذلك، هنالك الكثير من الاوهام التي تغلف فكرة العولمة الراسمالية نفسها.لذا فان انسحاب بريطانيا من تشابكاتها وروابطها الاوروبية  هي المسالة التي تجعلنا ان  نخوض في مفهوم  يسمى  باوهام العولمة  بدلا من حقائق العولمة.

الرأسمالية المعولمة:
 الحاضر والمستقبل

على الرغم من ان الراسمالية المعولمة جاءت تعبيراً مختصراً لمفهوم شاع  تداوله في العقود الاخيرة من القرن العشرين ليجسد لنا بان المؤسسات الراسمالية و تطبيقاتها قد انتشرت على مساحات جديدة من العالم وادت الى ربط اجزاء بعضها البعض بطرق مبتكرة قادت الى تحولات في العالم نفسه الذي نعيشه اليوم، وان الراسمالية غدت نظاماً سائداً و مستمراً  في المدى المستقبلي المنظور.،لكن  الراسمالية نفسها مازالت تغرق بالاوهام النافية لعولمتها وعلى وفق الاتجاهات الموضوعية الاتية:

الوهم الاول:

ترى الراسمالية المعولمة انها ظاهرة حديثة العهد ترتبط ( بالعصر الرقمي -عصر المعلوماتية) في حين ان الراسمالية هي ظاهرة عالمية منذ نشاتها وارتبطت تشابكاتها الجغرافية بمختلف القارات والمناطق التي كانت ومازالت تعيش عصر ما قبل الراسمالية  بسب تفوقها التكنولوجي سواء باستخدام وسائل النقل البحري والنقل بالقطارات وظهور الهاتف و تطور وسائل الاتصال في القرن التاسع عشر او استخدام الانظمة الرقمية في القرن الحادي والعشرين.فهي راسمالية منجذبة نحو بؤر المصالح وليس نحو الاندماج المعولم بالضرورة. وعلى هذا الاساس ظل تطور الراسمالية المركزية  منفصلا عن محيطه المتعثر ،سواء على الصعيد المؤسسي او الانمائي .وان التفرقة مازالت واضحة للعيان  بين اقتصاد العالم الاول المتقدم و اقتصاد العالم الثالث المتخلف حتى اللحظة. 

الوهم الثاني:

 تدعي الراسمالية المعولمة   بانها وفرت تدفقا لرؤوس الاموال على الصعيد العالمي.ولكن حقيقة الامر ان رؤوس الاموال المتمثلة بالاستثمار الاجنبي المباشر والمتصدي للقطاعات الحقيقية هو مازال متركزاً و بنسبة  70بالمئة  في الاقتصادات المركزية الكبرى نفسها وتحديداً في قطاع  الخدمات المتقدمة  كشركات التامين والمصارف  والاتصالات و غيرها والتي تسهل جميعها قوة الترابط  والتعامل داخل المجموعة الراسمالية المركزية  التي لايزيد عددها اليوم على 20 بلداً 
غنياً جاذبة للاستثمار الاجنبي المباشر.  في حين ترتخي الراسمالية المركزية المعولمة حتى مع محيطها الاقرب لها (اي اوروبا المركز/كالمانيا على سبيل المثال لاتعني اوروبا المحيط/ كاليونان). وهذا هو جل الصراع ومصدر الفزع الاوروبي ومخاوفه من  انسحاب بريطانيا كراسمالية مركزية  من النادي الاوروبي.وخوف العولمة الراسمالية المركزية  من فقدان وجودها تدريجياً.

الوهم الثالث:

هو انقسام العولمة وتحيزها الى المركز الراسمالي الصناعي الام بدلا من كونها متعددة الاطراف مع محيطها الابعد. فلا تختلف ازمة اسواق الطاقة اليوم كثيرا عن ازمة اسواق المال في الماضي القريب عند تعرضهما للاخفاقات السعرية المؤثرة في استدامة النمو والاستقرار الاقتصادي . فانهيار الاسواق المالية العالمية في ازمة العام 2008 لاتختلف في آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي في  بلدانها  عما تتعرض اليه اسواق الطاقة  من انهيارات سعرية منذ منتصف العام 2014 وحتى الوقت الحاضر وأثر ذلك في تفاقم الضائقة الاقتصادية التي تتعرض اليها البلدان المنتجة للنفط  في الوقت الحاضر. 
فمازال المدافعون عن الراسمالية المعولمة يرون فيها الحل الوحيد في التصدي للمشكلات الاقتصادية العالمية الخطيرة كالتلوث والفقر والامراض وسوء التغذية وتزايد المجاعة .وان ثمة مليار انسان حول العالم يعاني قلة حصوله على المياه النظيفة    .وطالما ان المشكلات الاقتصادية و غيرها لاتحل نفسها بنفسها ،فان واحدة من المصاعب التي لايمكن تخطيها في عالمنا اليوم (كالتقليل من استخدام السيارات وفتح الحدود امام التجارة الدولية او تحسين الصحة العامة ومواجهة الامراض المزمنة التي تحيط بنا على سبيل المثال) والتي لامناص من مواجهتها وإحتوائها بكونها من النواقص والعيوب التي لاتلائم اخلاقيات ومباديء عصر العولمة. فبالرغم من ذلك يبقى التساؤل المهم:هل العولمة متحيزة في سياساتها و تعمل من طرف واحد لمصلحة المركز الراسمالي في مواجهة مشكلات الاقتصاد العالمي ولاسيما المحيطية منها ؟ كلنا يتذكر انه عندما تعرضت المصارف وشركات التامين الكبرى في نيويورك الى سلسلة من الافلاسات والانهيارات المالية في مطلع خريف العام 2008 حيث اضطرت حكومة الولايات المتحدة بالتوجه الى البنوك المركزية في دول العالم المتقدم،ابتداءً من البنك المركزي الاوروبي في فرانكفورت وانتهاءً بالبنك المركزي الياباني في طوكيو وهي تحثهم على فكك مايسمى بفخ السيولة الذي كبل  الاقتصاد العالمي ، وذلك عن طريق تعظيم الاصدار النقدي (في اطار ما سُمي بسياسات التيسير الكمي) بغية تجنيب العالم مخاطر الركود والتدهور الاقتصادي عن طريق تدوير الائتمانات  وتحريك عجلة  النشاط الاقتصادي الدولي. ولاننسى المثال الشهير الذي ساقه الاقتصادي ( راندي إيبنك) في كتابه الصادرفي نيويورك في العام2009 والذي جاء تحت عنوان: (اقتصاد القرن الحادي والعشرين)، إذ يوضح راندي في مثاله ،مشخصا الاقتصاد المعولم في وقت الاًزمة، قائلا: عندما تريد الضفدع الجلوس في إناء من الماء الساخن فانها ستقفز حالا خارج الاناء خشية موتها! ولكن عندما ترقد الضفدع مسترخيةً في إناء من ماء بارد ترتفع سخونته تدريجياً حتى يصبح شديد الغليان فان الضفدع سيطفو ميتاً داخل ذلك الاناء.

عجز العولمة

فسكوت العولمة اليوم امام تدهور السوق النفطية ودخول مجموعة الدول النفطية في عجز في موازناتها المالية و موازين مدفوعاتها  في وقت مازال معظمها يسترخي في اناء الركود والبطالة او العوز الشديدين دون ان تبادر الدول الصناعية بتقديم يد المساعدة العاجلة في منحٍ اوقروض ميسرة ولو عن طريق مايسمى باتفاقات التبادل النقدي بمعنى ان تضع البلدان الصناعية ودائع كافية لدى مصارف البلدان النفطية لتستخدمها في سد احتياجاتها لمواجهة ازمتها المالية الراهنة ،اذا ما كانت العولمة متعددة الاطراف حقاً ام لا. بل على العكس فان صناديق الثروة السيادية لمجوعة البلدان النفطية الغنية هي مصدر صراع خفي بين المركز الراسمالي الغني والاغنياء الجدد من مناطق النفط الخام وغيره وهو امر غير مرغوب  فيه ذلك بجعل المركز الراسمالي يحمل اكثر من هوية في تعريف الراسمالية المعولمة والسماح للاغنياء الجدد بتوليد هيمنة مركزية مصدرها محيط العالم غير المعولم.وخير من كتب عن ذلك هو( توماس بكتي) في كتابه :راس المال في القرن الحادي والعشرين، الصادر في العام 2009 ،عندما انذر بان العالم الراسمالي المركزي سيدفع جل ايجارات قطاع العقار في الحواضر الاوروبية كعوائد استثمارات صناديق الثروة السيادية التي يمتلك احدها على سبيل المثال امير من امراء النفط.!!! ولكن تتحدث العولمة المركزية عن مجموعات الفائض النفطي في صراعاتها المركزية ولم تاخذ بالاعتبار مجموعات العجز النفطي.   
R

مشاهدات 595
أضيف 2016/07/17 - 11:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 16471 الشهر 65535 الكلي 7975588
الوقت الآن
الخميس 2024/4/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير