اختناق العولمة المؤقت: دفاعاً عن سلاسل التوريد العالمية
الدكتور مهند طالب الحمدي


 

جنحت السفينة أفر غرين ذات الحمولة 200 ألف طن في قناة السويس قبل فترة من الزمن. لايمثل الحادث جنوحاً لواحدة من أكبر سفن الحاويات في العالم فحسب، بل شكل دعماً لادعاء البعض أن العولمة ذهبت بعيداً جداً. منذ أوائل التسعينيات، تم استخدام سلاسل التوريد لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة. سعت الشركات إلى التخصص وتركيز مهام انتاج معينة في الأماكن التي توفر وفورات الحجم. مع ذلك، بدأ الآن إنتشار موجة مخاوف متزايدة من أن بعض حلقات سلاسل التوريد، مثل السفن الكبيرة جداً التي يصعب توجيهها، أصبحت مصدراً لضعف الاقتصاد العالمي.

 

أجبر نقص أشباه الموصلات بعض شركات صناعة السيارات إلى وقف بعض مراحل الانتاج حول العالم. فرضت الصين مقاطعة رقمية على شركةH&M ، وهي شركة غربية في مجال مبيعات التجزئة يبدو أنها غير راغبة في شراء القطن من مزارع مقاطعة شينجيانغ، حيث يقوم الحزب الشيوعي بحجر أقلية الأويغور في معسكرات واجبارهم على العمل ومحاولة "اعادة تشكيل أفكارهم." قام الاتحاد الأوروبي والهند بفرض قيود على صادرات لقاحات فايروس كورونا، مما أدى إلى تعطيل الجهود العالمية لحصول الناس على اللقاح حول العالم. بينما تحاول الحكومات محاربة الجائحة ومواجهة التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، أصبحت تغير مواقفها من السعي لتحقيق الكفاءة إلى طرح شعارٍ جديد يتمثل في المرونة والاعتماد على الذات.

 

من المنطقي أن تكون سلاسل التوريد أكثر قوة، لكن عندما يكون الأمن الوطني على المحك، يكون للحكومات دور في جعل الإمدادات أكثر أماناً. مع ذلك، يجب على العالم تجنب التراجع عن العولمة الذي لن يسبب ضرراً كبيراً  فقط، لكن سيخلق حالات ضعف جديدة غير متوقعة.

 

تتمثل إحدى المآخذ على العولمة أنها تركز عمليات الإنتاج وتقلل المخزونات الاحتياطية. تشكل عمليات استخدام وتشغيل سلاسل التوريد بعضاً من أكثر أشكال الجهود البشرية تعقيداً. يعتمد انتاج تلفون آيفون على شبكة شركة أبل للتصنيع التي تنتشر عبر أكثر من 60 دولة. لدى شركة فايزر، الرائدة في انتاج اللقاحات، أكثر من 5000 مورد. لكن السعي الدؤوب لتحقيق الكفاءة أدى إلى انخفاض المخزونات وخلق مناطق اختناق. في بداية انتشار الجائحة، أصيب الناخبون والسياسيون بالرعب من التدافع للحصول على أقنعة الوجه وأدوات الاختبار المصنوعة في الخارج. يتم تصنيع أكثر من نصف أشباه الموصلات المتقدمة في مصانع قليلة في تايوان وكوريا الجنوبية. تنتج الصين 72٪ من انتاج العالم للكوبالت الذي يستخدم في بطاريات السيارات الكهربائية. تقول شركة ماكينزي الاستشارية العالمية أن دولة واحدة احتكرت تصدير حوالي 180 منتجاً.

يصبح مثل هذا الاعتماد مُهدداً بشكلٍ خاص عندما تصبح الجغرافيا السياسية تصادمية أكثر. يجعل اضمحلال قواعد التجارة الدولية الدول أكثر حذراً من الاعتماد على بعضها البعض. أثناء فترة الجائحة، تجاوزت بعض البلدان أكثر من 140 من القيود التجارية الخاصة وشدد العديد منها، بهدوء، قيود الاستثمار الأجنبي. بسبب عدم القدرة على التنسيق الدولي في التعامل مع بعض المشاكل مثل كيفية فرض ضرائب على شركات التكنولوجيا العملاقة خارج البلاد وما إذا كان سيتم فرض ضرائب على الواردات التي تسبب نسبة أعلى من التلوث الكاربوني، أصبحت البلدان تميل إلى تولي زمام الأمور بنفسها. مع احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، تتصاعد احتمالية حصول حظر تجاري أو حتى صراع عسكري. في عهد الرئيس دونالد ترمب، قوضت الولايات المتحدة نظام التجارة العالمي ومن غير المرجح أن ينفق الرئيس جو بايدن الكثير من رأس المال السياسي على إعادة بنائه.

 

في ظل هذه الخلفية، تلعب الحكومات دوراً في تأمين الإمدادات، لكنه دورٌ محدود. يمكنها دعم البحث والتطوير، بما في ذلك مصادر الطاقة الجديدة. علاوة على ذلك، يتم تبرير وجود الدعم والتفضيلات المحلية فقط عندما يعتمد أحد المدخلات الحيوية على مورِّد احتكاري يخضع لتدخل محتمل من قبل حكومة معادية. تندرج بعض المعادن النادرة ضمن هذه الفئة، لكن سوائل تعقيم اليدين لا تندرج ضمن هذه الفئة.

 

يكمن الخطر في تجاوز الدول للحد الأدنى من التدخل. تطلق بعض الحكومات "التصريحات للاستهلاك المحلي" حسب قول السيد ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي المتزايد في ايمانه بالحمائية. في 24 شباط الماضي، أمر الرئيس بايدن بإجراء مراجعة أمنية لمدة لاتزيد عن 100 يوم لسلاسل التوريد الأمريكية. في 9 آذار، أعلن الاتحاد الأوروبي إنه سيضاعف حصته في صناعة الرقائق العالمية بحلول عام 2030، إلى 20٪، وهو ما أعقب تعهده أن يحقق الاكتفاء الذاتي في انتاج البطاريات بحلول عام 2025. في العام الماضي، أطلق الرئيس الصيني زي جين بينغ مفهوم "التدوير المزدوج"، بغرض عزل الاقتصاد الصيني عن الضغط الخارجي. تبدو هذه التعهدات غامضة، لكن تفضيل الانتاج المحلي والعمالة المحلية والوعود بتقديم الإعانات يمكن أن يمثل نقطة يتحول فيها العالم بعيداً عن التجارة الحرة والأسواق المفتوحة.

 

ليس لمثل هذا التحول نحو الاكتفاء الذاتي ما يبرره. أحد الأسباب هو أن مرونة سلاسل التوريد المحلية التي تديرها الحكومات أقل من مرونة سلاسل التوريد العالمية. على الرغم من كل المصاعب التي رافقتها، فإن معضلة جنوح سفينة أفر غرين ستكون مجرد صورة خاطفة ضمن إحصاءات التجارة. مع ارتفاع الطلب في ظل انتشار الجائحة، ارتفع إنتاج أقنعة الوجه في الصين بمقدار عشرة أضعاف. بعد أن شعر البعض بالذعر وتزاحموا لشراء البقوليات والمعكرونة، تكيفت سلسلة الإمداد الغذائي العالمية التي تبلغ قيمتها 8 تريليون دولار بسرعة، مما أدى إلى إبقاء معظم المتاجر الكبرى حول العالم تملك ما يكفي من الخزين. بينما يحتدم الجدل حول كيفية تخصيص جرعات اللقاحات، من المتوقع أن توفر الشبكات العالمية 10 مليار جرعة من اللقاحات الجديدة هذا العام. يتم تصوير الاعتماد على الذات بأنه يشكل مأمناً، لكن يجب على السياسيين والناخبين أن يتذكروا أن وجباتهم وهواتفهم وملابسهم ووظائفهم كلها نتاج سلاسل التوريد العالمية.

 

تسيء الدعوة إلى الاعتماد على الذات فهم التوازن بين تكلفة الاعتماد على الذات، التي هي وجيزة وظاهرة، وفائدته، التي ترشح بالفوائد شهراً بعد شهر بشكلٍ غير معلن. ستكون الكفاءات المفقودة ونفقات تكرار سلاسل الإنتاج المشتركة مدمرة: استثمرت بعض الشركات 36 ترليون دولار في الخارج، وسيصبح تراكم التكاليف، حيث الشركات المحلية محمية من المنافسة من خلال الدعم أو فرض التعريفة الكمركية، بمثابة ضريبة خفية على المستهلكين. بعد كل ذلك، فإن سياسة الاعتماد على الذات ستؤدي في النهاية إلى معاقبة الدول الصغيرة جداً أو الفقيرة جداً بحيث لا تستطيع أن تستقطب الصناعات المتقدمة للانتاج على أراضيها. إذا انتهى الأمر أن تتركز عمليات التصنيع في الداخل، فستتعرض حتى الاقتصادات الكبيرة للصدمات المحلية، والضغوط، وأوجه القصور لدى منتجيها، كما قد تكتشف الولايات المتحدة في حالة شركة إنتل.

 

لا تأتي المرونة من الاكتفاء الذاتي ولكن من مصادر متنوعة للإمداد وتكيف القطاع الخاص المستمر مع الصدمات. ستتكيف الشركات العالمية، بمرور الوقت، حتى مع التهديدات طويلة الأمد، بما في ذلك التوتر بين الولايات المتحدة والصين وآثار تغير المناخ، من خلال تغيير أماكن استثماراتها الجديدة بشكلٍ تدريجي. نعيش الآن لحظة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للتجارة الدولية. مثلما تولِّد العولمة الانفتاح، كذلك تنتشر الحماية والدعم من بلدٍ لآخر. العولمة نتاج عمل طال عقوداً من الزمن، لا ينبغي أن ندعها تنهار إلى القاع.

 

أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة ولاية كنساس، الولايات المتحدة الأمريكية.


مشاهدات 1431
أضيف 2021/05/07 - 5:27 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 10622 الشهر 65535 الكلي 7654562
الوقت الآن
الجمعة 2024/3/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير