رؤية في تمويل الموازنة الاتحادية في العراق

د. حيدر حسين ال طعمة 

لاينكر احد ثقل التركة التي خلفتها الحكومات السابقة على كافة المستويات، ومنها الجانب الاقتصادي. فمنذ العام 2003 تتراكم التداعيات الاقتصادية الناجمة عن ضعف وفساد الحكومات العراقية في ادارة الثروة النفطية بشكل يناسب الايرادات المتحققة وتطلعات افراد المجتمع في العيش بكرامة وعدالة ورفاه والتمتع بخيرات البلد الوفيرة. حكومة مصطفى الكاظمي ولدت في ظروف استثنائية بحاجة لسياسات غير تقليدية لمواجهة ازمة ثلاثية الابعاد (احتجاجات شعبية، فيروس كورونا، تراجع اسعار النفط). كما زاد انحسار الايراد النفطي من صعوبة ادارة الازمة الصحية وتطويق التداعيات الاقتصادية للحجر الصحي وما ترتب عليه من توقف شبه تام للأعمال وضغط اقتصادي ومالي ومعيشي للطبقات الفقيرة والهشة في العراق.

ومع شحة الخيارات المالية المتاحة لبلد يعتمد على النفط بأكثر من (90%) في تمويل الموازنة العامة، ولا يمتلك صندوق سيادي او احتياطات مالية قادرة على امتصاص الصدمات، كان لزاما على الحكومة الجديدة البدء ببرامج اصلاح وضبط للأنفاق العام مع جهود عالية لتعظيم الايرادات غير النفطية. وفي هذا السياق، ناقش مجلس الوزراء مطلع حزيران الجاري حزمة اصلاحات مالية حملت عنوان ” مناقشة الامور المالية واعادة ترتيب اولويات تمويل بنود الموازنة”، واهم ما جاء في التقرير المنشور مايلي:

ايقاف التعينات كافة واعادة التعيين على الملاك المؤقت كالعقود.
ايقاف النفقات غير الضرورية في الدوائر الممولة مركزيا او ذاتيا.
اعادة جدولة القروض المستحقة على الموظفين للمصارف كافة.
تحديد سقوف عليا للرواتب المستلمة من لدن السجناء السياسيين وغيرهم.
اعادة النظر برواتب محتجزي رفحاء وغيرهم وفق ضوابط حاكمة.
الزام المصارف الحكومية بتقديم كشوفات نصف شهرية عن حركة حسابات وحدات الانفاق العامة.
التفاوض مع شركات النفط العاملة في العراق لإعادة النظر في جولات التراخيص وتخفيف العباء المالية المترتبة على تلك العقود.
تخفيض اجمالي مخصصات الرئاسات الثلاث والدرجات العليا بشكل كبير ووفق نسب متدرجة.
ان يكون اعلى راتب تقاعدي (5) مليون دينار.
فقرات اخرى.
ورغم غياب العديد من الخطوات المالية المطلوبة، خصوصا على مستوى تعظيم الايرادات غير النفطية، الا ان اقدام الحكومة على تقليص نفقات شبه جامدة ومحمية من الكتل والاحزاب السياسية هي خطوة طويلة باتجاه كسر الجمود الذي طوق جهود وسياسات الاصلاح في العراق منذ العام 2003.

ويتطلب نجاح الحكومة في مساعي الاصلاح المالي الاهتمام بعدد من التساؤلات لتعزيز خطوات الاصلاح المذكورة في اعلاه، ومنها:

ما شكل الموازنة التي ستعتمد وتضمن فيها القرارات الواردة في التقرير؟ هل هي موازنة نصف سنوية ام موازنة شهرية ام ماذا؟
هناك العديد من المخصصات شرعت بقانون ولا يمكن الغائها الا بقانون (كمخصصات الخدمة الجامعية) فكيف سيتم التعامل معها.
بعض الفقرات واجبة التنفيذ بتاريخ 1/6/2020، هل يعني ذلك انها لن تمر بمجلس النواب؟ علما بان الاخير صاحب القول الفصل في اقرار مشاريع القوانين الحكومية وتعديلاتها ايضا.
لا يوجد ذكر لتعظيم ايرادات الدولة عبر اعادة النظر في ملف العقارات الحكومية رغم اهميتها.
غابت المعالجات الحقيقية لكبح الفساد المستشري وتعظيم الموارد المالية الحكومية من المورد النفطي البديل (المنافذ الحدودية)، فقط تمت الاشارة الى ايقاف الاستثناءات على الاعفاءات الممنوحة على السلع.
لم يشر التقرير الى ضرورة تشكيل لجنة مختصة لتدقيق وفحص قوائم الرواتب لكافة موظفي الدولة لعزل الفضائيين واصحاب الرواتب المزدوجة والتحقق من الاعداد الضخمة من موظفي الدولة.
لم يشار الى الملف المالي العالق بين المركز والاقليم ولم يشار ايضا الى مشروعية تمويل رواتب الاقليم دون تسليم الاخير النفط المصدر.
يثار تساؤل حول امكانية الحكومة الاتحادية من تطبيق الاجراءات الاصلاحية المذكورة على الاقليم رغم منع الاخير ديوان الرقابة المالية الاتحادي والهيئة العامة للكمارك من فحص وتدقيق السجلات خلال السنوات الماضية.
لم تذكر الاموال العراقية في الخارج ولا الديون المستحقة على شركات الاتصال وغيرها من الشركات ولا اليات استحصالها لتكون مصدر للتمويل الحكومي في الوقت الراهن.

 

ولا تقلل الملاحظات الواردة من شأن المساعي الحكومية لإدامة زخم التمويل الحكومي للرواتب بالحدود الدنيا والانصراف الى اسعاف الطبقات الهشة في المجتمع العراقي، والتي حوصرت بسبب اجراءات الحضر من جهة وضعف النشاط الاقتصادي من جهة اخرى. كما يجب التأكيد على ضرورة ان تكون الاصلاحات شاملة وغير مجزئة، كما حصل في السنوات السابقة، فلا يعقل ولا يقبل ان تخفض رواتب الموظفين وثقوب الفساد تبتلع اموال الخزينة الحكومية فضلا على تسرب ايرادات المنافذ الكمركية دون رقيب او حسيب الى جيوب الاحزاب والمافيات السياسية في العراق، ومن غير المنصف ايضا ان تطبق اجراءات التقشف وخفض الرواتب ورفع الرسوم والضرائب بحق محافظات الوسط والجنوب في حين يمتنع اقليم كوردستان عن الرضوخ لذات الاجراءات الحكومية بحجة الاستقلالية وسيادة الاقليم، مع استلام كافة المستحقات المالية دون تسليم برميل نفط واحد للحكومة الاتحادية منذ سنوات طويلة.

الجدل بشأن الاقتراض لتمويل العجز المالي

منذ سنوات طويلة اطرت المزايدات السياسية طابع الجدل بين الحكومة الاتحادية ومجلس النواب بحجة مراعاة المصالح الوطنية العليا والدفاع عن حقوق المواطن وانفاذ القانون. لذا لا يمكن التعويل على المواقف السياسية المتقلبة في قراءة القضايا الاقتصادية والمالية للبلد. ان صعوبة الازمة المالية الراهنة واقع تفرضه الارقام، في بلد ينكشف على النفط في تمويل الموازنة بنسبة تفوق (90%). ويشكل تراجع الاسعار والايرادات النفطية الى أكثر من (75%) صدمة مالية حادة، خصوصا مع اساسيات للإنفاق الجاري لا تقل عن (7) ترليون دينار وفق تصريحات وزير المالية الاخيرة، وايراد نفطي قارب (2.5) ترليون دينار لشهر ايار الماضي، وهو ما يغطي بالكاد ثلث النفقات الحكومية الجارية.

وفي اطار المساعي الحكومية للتعايش مع انهيار اسعار النفط والاستمرار في تمويل النفقات الجارية، والرواتب بشكل خاص، ارسل مجلس الوزراء مشروع قانون الاقتراض المحلي والخارجي لتمويل العجز المالي للعام 2020 الى مجلس النواب لغرض اقراره. وتتكون مسودة مشروع قانون الاقتراض المحلي والخارجي من مادتين، الأولى تنص على تخويل وزير المالية صلاحية الاقتراض المحلي والخارجي من خلال إصدار حوالات الخزينة والسندات المحلية وكذلك الاقتراض من المؤسسات المالية والبنوك الأجنبية لتمويل النفقات التي يوافق عليها مجلس الوزراء، اما الثانية فهي سريان هذا القانون لغاية نهاية السنة المالية 2020 أو لحين إقرار قانون الموازنة العامة الاتحادية. وبعد القراءة الاولى والثانية لمشروع القانون المذكور، أرجأ مجلس النواب التصويت عليه اتساقا مع رأي اللجنة المالية في تمرير مشروع القانون باشتراط تضمينه المبالغ المراد اقتراضها والتوقيتات الزمنية للسداد والجهات المستفيدة ومقدار الفائدة. وان تخصص نسبة لا تقل عن (25٪) من حجم الاقتراض للموازنة الاستثمارية لأجل انجاز المشاريع المتلكئة وتوفير فرص عمل للشباب العاطلين.

ورغم عمق الازمة المالية الراهنة وصعوبة الخيارات المتاحة لتمويل العجز الحكومي، الا ان اللجوء الى الاقتراض ينبغي ان يكون الخيار الاخير بعد سياسات جريئة لضبط الانفاق وتعظيم الايرادات غير النفطية، ومراعاة ما يلي:

ضبط وتقليص كافة بنود النفقات الجارية وتشذيب جوانب الهدر والفساد المقدر بثلث الموازنة الجارية.
اعادة النظر باليات الصرف والتنفيذ التي اطرت النفقات الاستثمارية طيلة السنوات السابقة.
السيطرة على ايرادات المنافذ الكمركية الضائعة والمقدرة بأكثر من مليار دولار شهريا بسبب هيمنة مافيات الاحزاب والكتل السياسية على حركة البضائع منذ العام 2003.
تحصيل الايرادات الحكومية المفقودة من اجور ماء وكهرباء للمؤسسات والافراد لتمويل هذه القطاعات وضمان استمرارها في تقديم الخدمات للمواطن وعدم التأثر بالأزمة المالية.
تحصيل الديون الحكومية المستحقة على شركات الاتصال وغيرها من المؤسسات العاملة في العراق.
تشكيل لجنة عليا من قضاة ومختصين لتحديد اليات مناسبة لاسترداد وتعظيم ايرادات املاك الدولة.
استرجاع الديون الحكومية التي بذمة اقليم كردستان نتيجة سنوات طويلة من الاستحواذ على ايرادات العراق من النفط المهرب وايرادات المنافذ الكمركية رغم الاستفادة الكاملة من الموازنة الاتحادية في تمويل نفقات ورواتب الاقليم.
سياسات الأمد القصير:

يرجح ان تخفق الحكومة في اجراء اصلاح مالي عاجل نظرا لتضارب المصالح وضعف التماسك والتنسيق بين الحكومة ومجلس النواب في قضايا خضعت للمساومة والمزايدة والابتزاز منذ سنوات مما يُلزم الحكومة ايجاد مصادر تمويل عاجلة لإدامة زخم النشاط الاقتصادي في العراق.

ان هبوط قيمة صادرات النفط يعني عجزا ثنائيا في ميزان المدفوعات، الخارجية، والموازنة العامة. وأن العجز الأول هو الأخطر لكنه قابل للإدارة طالما لدى البنك المركزي احتياطيات: من الذهب وعملة أجنبية واستثمارات خارجية عالية السيولة بما يزيد على ستين مليار دولار أواخر شهر مايو، أيار، من عام 2020 . ويمكن بذلك سد الفرق بين العملة الأجنبية المطلوبة من القطاع الخاص لتمويل مستورداته ومدفوعاته الأخرى وما تحوّله وزارة المالية الى البنك المركزي من قيمة صادرات النفط. أي ان الحكومة تنظر في إيرادات النفط من العملة الأجنبية، وتضيف عليها التدفقات الممكنة من القروض الخارجية القائمة والجديدة، وتقتطع من هذا المجموع متطلبات إستيراداتها ومدفوعات التزاماتها الخارجية، وتحول الباقي وهو قليل الى البنك المركزي، ويضيف البنك المركزي على هذا المبلغ من احتياطاته آنفة الذكر ليستجيب لطلب القطاع الخاص على العملة الأجنبية. وباشرت الحكومة محاولاتها للحصول على قروض من الخارج، وكلما ازداد السحب على القروض الخارجية ازدادت مبيعات وزارة المالية من العملة الأجنبية الى البنك المركزي وساعدت على خفض معدلات استنزاف احتياطاته آنفة الذكر. بيد ان الاقتراض من الخارج يعني إضافة أعباء جديدة على موارد النفط في المستقبل القريب. وتعتمد سلامة الاقتصاد على إمكانية استمرار هذه العملية الأساسية في إدارة الأزمة الحالية، وذلك بغض النظر عن فهم الدوائر الرسمية لأبعاد العجز والتفسير المربك للاقتراض من الخارج ” موارد النفط لا تكفي للأنفاق ونقترض من الخارج لسد الفرق” .

اما الاجرآت الموازية والتي تعالج العجز الثاني فتتمثل في تدبير تمويل بالدينار العراقي للأنفاق الداخلي: رواتب وما اليها، وقيمة مشتريات سلعية وخدمية للأنفاق الحكومي التشغيلي، والقليل جدا من المدفوعات لمشاريع استثمارية تحت التنفيذ. فما هي مصادر تمويل الأنفاق بالدينار العراقي: المصدر الأول قيمة مبيعات وزارة المالية من العملة الأجنبية الى البنك المركزي، وعندما ينحسر المورد النفطي تنخفض المقبوضات من هذا المصدر كثيرا؛ والمصدر الثاني إيرادات من غير النفط الخام، ضرائب ورسوم وحصة من ارباح المنشآت الاقتصادية الحكومية، ومبيعات موجودات وأملاك حكومية وما اليها؛ والمصدر الثالث القروض الداخلية وأغلبها من الجهاز المصرفي وللبنك المركزي الدور الرئيس في تيسيرها. تلك هي عناصر وآليات إدارة الأزمة عام 2020، بسيطة ولا تتحمل التهويل والغموض.

وتتوزع أرصدة الحكومة بالعملة الوطنية والأجنبية على حسابات مصرفية عدة وتتطلب كفاءة الإدارة نظاما محكما للسيطرة عليها اولا بأول. ونهاية يوم العمل، على مدار السنة، يوجد للحكومة رصيد بالدينار العراقي في الجهاز المصرفي الوطني؛ ورصيد بالعملة الأجنبية في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والجهاز المصرفي الوطني. خلال يوم العمل التالي تعدل تلك الأرصدة بتدفقات داخلة وخارجة ثم أرصدة جديدة…وهكذا .

المصدر شبكة الاقتصاديين العراقيين


مشاهدات 1555
أضيف 2020/06/23 - 10:59 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 8383 الشهر 65535 الكلي 7525275
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/3/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير