الإصلاح بعيون إقتصادية
زيد كريم الشافعي

يشهد بلدنا الحبيب في الوقت الحالي تظاهرات تجتاح مُعظم محافظاتهِ مطالبة بإصلاح الوضع الحالي، ولعل المطلب الأهم هو توفير فرص عمل و وظائف للمعطلين عن العمل من حملة الشهادات بشتى مستوياتهم، و هنا نجد إن المشكلة إقتصادية و إن طغى عليها البعد السياسي، ولكن يبقى حلها إقتصادياً و لو تعددت الآراء.

فما هو الحل الأفضل ؟

قطعاً و برأي جميع الإقتصاديين إن الحل لا يكمن بتوفير درجات وظيفية في الحكومة، لأنه و بكل بساطة سوف نجد في كل عام آلاف الخريجين المطالبين بالتعيين.

و إني أرى إن الحل الأفضل هو بإتباع السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة و بريطانيا و الهند و اليابان، و ذلك بإشراك القطاع الخاص إلى جانب القطاع العام في القطاعات غير المنتجة ذات التكلفة المرتفعة والإيراد المتدني كالقطاع الصناعي العام والعمل على تحويله إلى قطاع إنتاجي مستقطب للموارد البشرية ومزود للميزانية الحكومية بإيرادات على شكل ضرائب و رسوم. و الآن سوف نبين التجربة اليابانية الناجحة المطبقة في قطاع النقل (سكك الحديد) و كما هو آتي:

كانت سكك الحديد في بداية نشأتها مملوكة من قبل الدولة، قبل الحرب العالمية الثانية، إذ تم تشغيل سكك الحديد اليابانية كجزء من وزارة حكومية، وبعد الحرب في عام 1949 تم تنظيم الشركة الوطنية (JNR) كشركة عامة، ولكن كانت هذه الشركة تفقد حصتها من السوق لصالح وسائط النقل الاخرى مما ادى الى تكبد خسائر مالية كبيرة حتى حاولت الحكومة إعادة التنظيم والاصلاح الاقتصادي للشركة الوطنية بتشكيل لجنة مؤقتة معنية بالإصلاح الاداري، واوصت اللجنة بإعادة هيكلة الشركة الوطنية واعادة الاعمار فيها، في عام 1983 بدأ العمل على التخطيط بحل الشركة الوطنية واستبدالها بسبع شركات مساهمة ست منها للركاب وواحدة للبضائع حسب التركز الاقليمي، ووضع القواعد الاساس لإعادة الهيكلية والخصخصة، وقانون تنظيم شركات السكك الحديد للركاب والبضائع والذي وفر استقلالية ما بين شركات نقل الركاب وشركة شحن البضائع والنشاطات الخدمية ذات الصلة بالنقل، كما اعادة هيكلية القوى العاملة والموظفين بتنسيق مع النقابات العمالية وتم انشاء صندوق لتوفير الحماية الكاملة للعاملين والمتقاعدين، فضلا عن إعداد دورات تدريبية لتطوير مهارات الكوادر الهندسية والفنية والادارية، لذلك كانت هناك عدة أهداف للحكومة لتطوير سكك الحديد، فالهدف الرئيس هو تحويل السكك من مصدر رئيس للعجز المالي الى مورد مساهم في الايرادات، والهدف الاخر هو توفير بيئية تنافسية لذلك القطاع قادر على منافسة بقية وسائط النقل الاخرى، فضلا عن الحفاظ على الاصول الحالية ودعهما وتطويرها بأحدث الاساليب التكنولوجية وتقديم خدمات عالية الجودة.

و قد ظهر تحسنناً مالياً كبيراً وتدفق نقدي سنوي وصل الى اكثر من 5 مليارات دولار في الخزانة اليابانية، فضلاً عن ارتفاع في كفاءة العاملين وزيادة معدل النمو في الإنتاجية والتشغيل وتحسن في مستوى الارباح، وتحقق زيادة سنوية بـ5% لنقل الركاب و 10% للنقل بشحن البضائع، وتم تصفية الاصول من الاراضي غير المطورة والاستفادة من مبالغ بيعها التي كانت تشكل نفقات رأسمالية على شركات السكك الحديد، فضلا عن تحسن جودة الخدمات وزيادة سرعة القطارات بشكل ملحوظ وتحسين مرافق المحطات وادخال نظام التكيف في معظم القطارات وتحديث الخدمات المتعلقة بكافة وسائل الراحة والامان فضلا عن التكنولوجيا المستعملة في قطارات المسافات الطويلة ومتطلبات المنام وخدمات المطاعم.

إن هذا التعديل و إعادة الهيكلة خدم الكثير من المشروعات العقارية و التجارية ونشط عمل الفنادق و عمليات بيع التجزئة.

كما ساعدت القروض منخفضة الفائدة من صندوق تنمية سكك الحديد فتطوير القطاع، فضلاً عن المنح والإعانات المقدمة من الحكومات المحلية، و في عام 1986 اعطيت حوافز للشركات الخاصة لغرض الاستثمار في خطوط السكك الجديدة من خلال وضع قوانين تعزز من تنمية السكك  كالاعفاءات الضريبة وتقديم آليات عديدة للدعم والتمويل لبناء وتحديث خطوط جديدة، فقد حصل انتقال من الملكية العامة الى الخاصة واصبح هناك تنافس في خدمة نقل الركاب و البضائع، وبدأت جهود لإصلاح المؤسسة في عام 1987 التي كانت تعاني من ديون بلغت 300 مليار دولار، ونجحت جهود الحكومة الجديدة في إعادة الهيكلة للشركة الوطنية وطرح الأسهم لمشاركة الشركات الخاصة وتفعيل عملية الخصخصة، وبدأ التحسن في الاداء المالي و إنتاجية العاملين والإنتاجية الرأسمالية لخطوط سكك الحديد نتيجة تقديم الحكومة اعانات لشركة (JNR )بلغت 50 مليار دولار، وساعدت تلك الاعانة في تطوير وتنمية شبكة السكك في اليابان، واصحبت السكك الحديد تمول الحكومة اليابانية ما يقارب 6 مليار دولار سنويا على شكل ضرائب ورسوم، وقد بلغ عدد العاملين في الشركة الوطنية 224 ألف عامل وتولدت إيرادات من عمليات التشغيل بلغت 31.1 مليار دولار، وتم استخدام التكنولوجيا المتطورة في صيانة الاصول.

إن الحكومة اليابانية التي استلمت السلطة كانت تؤمن بأن النهوض وتطوير خطوط السكك الحديدية سيحدث نقلة نوعية تساهم في رفد الخزانة اليابانية بالإيرادات عكس استنزاف الذي كان جراء العجز المالي في الشركة الوطنية، وتم وضع الخبراء المعزولين عن ((الضغط السياسي)) لإعادة الهيكلة وتنظيم افضل وتحليل الجدوى المالية لإعادة الهيكلة، وتم الاستعانة بالصناعيين والاكاديميين، إذ كان من غير المنطقي بيع السكك الحديدية بشكل كامل فهي تبقى ملكا للقطاع العام مع شراكات من القطاع الخاص وفق نظام محدد من الاستثمار في المدن كافة وامتلاك أسهم وأرباح وفق القوانين المحددة للبيئة الاستثمارية، وقد تم إنشاء ست شراكات بين القطاع العام والخاص لتشغيل 15 خط جديد، فضلاً عن تجديد اكثر من 31 خط في انحاء اليابان جميعها.

وهنا يمكن أن نركز على أهم النقاط المستوحاة من التجربة اليابانية:

1 – تأسيس إدارة متخصصة بعيدة عن التأثر بالقرار السياسي يقودها إقتصاديين تهدف إلى إدارة و وضع صيغة الشراكة بين القطاع العام و الخاص.

2 – منح القروض و الإعانات للمؤسسات التي ستعمل تحت ظل القطاع الخاص، و بفوائد رمزية، لتشجيع المنتجين على الإستثمار.

3 – شمول العاملين بمثل هكذا قطاعات بالضمان الاجتماعي و التقاعد، لتكون هذه القطاعات جاذبة لليد العاملة التي باتت لا تريد إلا القطاع العام حتى وإن كانت الأجور في القطاع الخاص أعلى إذ إن للتقاعد أثر كبير على قرار العاملين.

4 – الإستعانة بالخبراء والحرفيين والعاملين والاستفادة من خبراتهم لتجاوز أشواط من التجارب.

5 – تحديد قطاع حيوي ذو إنتاج سلعي يكون الطلب عليه غير مرن لضمان تصريف المنتجات، وهناك الكثير من الشركات العامة التي ينطبق عليها هكذا شروط كشركة الصناعات الجلدية و شركة الزيوت و غيرها الكثير.

6 – توفير القوة التنافسية لهذه الصناعات في قبال المنتج المستورد كفرض الرسوم والضرائب على المنتج الإجنبي.

ويجب الإشارة على إنه مهما كانت هذه الشراكة مكلفة فإن تكلفتها أقل بكثير من توظيف الخريجين والبقاء بتقديم الرواتب لهم دون أي عائد، فالقطاع الحكومي يكاد لا تذكر نسبة عائدهِ الى تكلفتهِ.


مشاهدات 2778
أضيف 2019/11/03 - 1:10 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 6011 الشهر 65535 الكلي 7522903
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/3/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير