هل ما زال الرأسماليون بحاجة إلى المستهلكين؟

صحيح أن الخروج بأرقام أمر صعب، لكن الأكيد أنّ نقل الإنتاج والاستعانة بمصادر خارجية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية إلى الدول المنخفضة الكلفة، أدّى إلى خسارة الوظائف وتقليص القدرة الشرائية للعمّال في الدول المتقدّمة. ومن المتوقّع أن تكون موجة خسارة الوظائف المقبلة ناتجة من التكنولوجيا، وتحديداً من الأتمتة والتحكّم بالروبوتات عن بعد، والحضور عن بعد أو الاتصال المرئي، مثلاً، في مراكز الاتصالات والبيانات وغيرها من مراكز الخدمات. ووفقاً لدراسات حول الخسارة المتوقّعة للوظائف بسبب الأتمتة وحدها، يتبيّن أنها قد تطاول حوالى نصف الوظائف (47%) في الولايات المتّحدة، و35% من الوظائف في المملكة المتّحدة، و49% في اليابان.
إذاً ما هو تأثير فقدان هذا العدد الكبير من المستهلكين لوظائفهم أو انخفاض رواتبهم، على الطلب وعلى أرباح الشركات وعلى الشركات في الخارج وعلى إمكان أن تقوم الحكومات بدورها كداعمة مالية للحضارة؟
يسود اعتقاد، على نطاق واسع، أن تراجع القدرة الشرائية للأجراء ستُترجم في النهاية بتراجع مبيعات الشركات وأرباحها وحصص مساهميها، المسؤولون الرئيسيون عن تراجع كلفة العمالة، كنتيجة لمحاولاتهم زيادة أرباحهم. لكن بغضّ النظر عن نظرية هنري فورد حول تحسين الأجور بهدف زيادة الطلب على سيّارات شركته، يبدو عملياً أن رأس المال يستفيد من تقليص كلفة العمالة.

لنأخذ كلفة العمالة في الولايات المتّحدة مثلاً. فبعد تكييف الأجور مع التضخّم، باتت القدرة الشرائية الناتجة من المعدّل الوسطي لأجر ساعة واحدة توازي القدرة الشرائية نفسها في عام 1978، أي 22.65 دولار أميركي. في الواقع، ارتفع أجر ساعة العمل إلى أعلى معدّلاته عام 1973، وبلغ 4.03 دولار - وهي القدرة الشرائية نفسها التي ينتجها 23.68 دولار في الساعة حالياً (المصدر: بيو للأبحاث Pew Research) - ووفقاً لـ«البيانات الاقتصادية للاحتياطي الفيدرالي» FRE، ارتفعت الأجور الاسمية في الولايات المتّحدة، ما بين عامي 1964 و2018، بنسبة 2600% (26 مرّة)، بالمقارنة مع ارتفاع الأرباح الاسمية للشركات الأميركية بنسبة 4400% (44 مرّة) خلال الفترة نفسها.
هل تحتاج الاقتصادات الرأسمالية الحديثة إلى مستهلكين؟
تعدُّ الاقتصادات الرأسمالية، بالأساس، اقتصادات ثنائية؛ طرف فيها مؤلّف من أجراء يحصلون على رواتب، وطرف آخر مؤلّف من رأسماليين يملكون وسائل الإنتاج والتوزيع (يملكون الشركات التي تنتج السّلع وتوزّعها) ويكسبون الأرباح ويحصدون قيمة الإيجارات. وهذان الطرفان مختلفان كلياً. إذ يمكن لأي كان شراء الأسهم، لكن عملياً، تتركّز ملكية الشركات لدى فئة صغيرة من السكّان. وعلى سبيل المثال، أكثر من 50% من الأميركيين يملكون أسهماً في شركات، ولكن 84% من مجمل أسهم الشركات يملكها 10% فقط من السكّان.
وكما هو معروف، اتّسعت فجوة الدخل بين هاتين الفئتين في السنوات الثلاثين الماضية، حيث خسرت الأجور من قيمتها الإجمالية لمصلحة الأرباح. فما كان تأثيرها في الاستهلاك؟ استجاب أصحاب الأجور بزيادة اقتراضهم. وتظهر الأرقام الصادرة عن منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن حصّة الاستهلاك المموّلة من الأجور في تسعة بلدان في مجموعة العشرين (أستراليا وكندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) انخفضت من أكثر من 65% في بداية سبعينيات القرن الماضي إلى 56% بحلول عام 2012 (المصدر: منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية: حصّة العمالة في اقتصادات الدول العشرين - 2015).
دقّ بنك إنكلترا ناقوس الخطر في المملكة المتّحدة، أخيراً، بعد بلوغ ديون الأسر 1.8 تريليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى 213 مليار جنيه من الديون المشكوك بها، مثل ديون بطاقات الائتمان باستثناء الإقراض غير الشرعي والضارّ. أمّا في الولايات المتّحدة فيقترب دين المستهلك لتمويل شراء السيّارات والتعليم من 3 تريليونات دولار.
ترتبط قدرة الرأسماليين على تقليل كلفة العمالة من دون أن يعانوا من نقص في الطلب، بطبيعة الربح في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة الحديثة. لقد كان كارل ماركس أوّل من لاحظ (بشكل صائب) أن في حال، لم يقترض العمّال، ولم يحصلوا على دخل آخر غير أجورهم، فمن المستحيل أن يحقّق الرأسماليون ربحاً نقدياً. ويكمن السبب بأن عدم حصول العمّال على قروض، يدفعهم لإنفاق أموال تساوي قيمة الرواتب التي يحصلون عليها. وكما قال ماركس، لا يمكن أن تكون النفقات أكبر من الأجر. وبالطبع، يستطيع الرأسماليون تحقيق الربح المادي من خلال استهلاك و/أو توفير السلع والخدمات التي لا يستطيع العمّال تحمّل كلفتها: هذا هو معنى معادلة الربح الشهيرة في القرن العشرين للاقتصادي البولندي كاليكي.
لكن على الصعيد العالمي، لا يهتمّ الرأسماليون بمجرّد استهلاك السلع والخدمات بل بكسب الربح النقدي. فشعار اليوم هو: «أنا أعمل في مجال صناعة المال».

ولكن كيف يُصنع المال؟ في الاقتصادات الحديثة (باستثناء السياسات غير التقليدية مثل التسهيل الكمّي) يتكوّن المال بشكل أساسي عن طريق الودائع المصرفية التجارية وتوليد الإقراض المصرفي. فالقروض التي يحصل عليها الأجراء تسمح لهم بالاستمرار في الاستهلاك، مما يسمح للشركات بزيادة الأرباح مع تخفيض تكاليف العمالة. يكمن الجانب السلبي في هذه العملية في أنّ الأشخاص الذين يتقاضون رواتب يحتاجون إلى تحمّل قدر متزايد من الديون. ومع الأجور المُسطّحة والبطالة المتزايدة، فإن تحمّل المزيد من الديون أمر غير مستدام، وإذا استثنينا الأحداث الخارجية، فمن المرجّح أن تلوح أزمة في الأجواء.
كما رأينا، إن فكرة أرباح الشركات جيّدة للجميع هي مغالطة. ومن المغالطة أيضاً الاعتبار أنه لا يمكن للرأسمالية أن تعمل من دون منحها فرص ربح استثنائية. فالرأسمالية كانت خياراً لا بأس فيه في ستينيات القرن الماضي عندما كان الرؤساء التنفيذيون يكسبون 20 ضعف متوسّط أجر العامل العادي في الشركة. أمّا اليوم فهم يكسبون 312 مرّة أعلى من الأجراء.
المجتمعات والاقتصادات المبنية على عوامل السعي للربح - إلاّ إذا اتخذت إجراءات مضادّة - ستختار دائماً تقليص كلفة العمالة لزيادة الأرباح. لكن تخفيف مشكلة البطالة أو البطالة المُقنّعة وتراجع الأجور مع مدخول أساسي مضمون هو فخّ، حتى الآن، طالما أنه يتفادى حلّ المشكلة الاجتماعية الكامنة: فدين المستهلك المتنامي هو غير مستدام على المدى الطويل.
في مجتمع ديموقراطي ناجح، من واجب الحكومة العناية برفاهية مواطنيها. وهناك عدد من الشروط المُسبقة لمجتمع ديموقراطي ناجح. أحد هذه الشروط هو توفير تعليم رسمي مجاني على أعلى مستويات الجودة، كما أن تحقيق توازن القوّة بين الشركات والعمّال والشركات والمستهلكين هو شرط آخر، إذ يجب أن يتمتّع العمّال والمستهلكون بالقدرة اللازمة للدفاع عن مصالحهم في عالم يتزايد فيه دمج الفروع الصناعية. نحن بحاجة إلى بلورة فكرة مشتركة حول ماهية المجتمع الناجح، وهي أنه لا يمكن أن يكون الربح القيمة الاجتماعية الوحيدة.

 

 

* سيرجيو فوكاردي بروفيسور في الشؤون المالية في Leonard De Vinci،
Paris La-Defense، وصاحب كتاب: Money: What It Is, How It’s Created, Who Gets It, and Why It Matters (لندن ـ روتلدج).

نقلاً عن صحيفة "الاخبار" 

 

 

 

 


مشاهدات 1496
أضيف 2018/10/09 - 9:25 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 6992 الشهر 65535 الكلي 7523884
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/3/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير