التواصل الاجتماعي كمسار إنتاج رأسمالي: فايسبوك كما لم نره سابقاً
أنجل بوليغان ــ المكسيك

 

يحاول الكاتب الإجابة عن سؤال «كيف تتمكّن شركة فايسبوك من إنتاج الأرباح؟». هل هو الكادر البشري ومنظومة الخوارزميات؟ أم المستخدمون أنفسهم؟ ولذلك لا بدّ أوّلاً من تحديد «ماهية السلعة التي تنتجها هذه الشركة وتبيعها (...) وفكّ شيفرات مسار الإنتاج الرأسمالي الذي تعتمده فايسبوك ومعرفة كيفية إنتاجها للأرباح ومراكمتها لرأس المال

 

شكّلت انطلاقة موقع فايسبوك في العام 2008 علامة مؤسّسة في مسار اقتصاد المنصّات الإلكترونية. فالموقع الذي انطلق بداية كأداة للتواصل الاجتماعي والتلاقي ما بين الأفراد تحوّل اليوم إلى المنصّة الإعلامية والإعلانية الأبرز في العالم، فيه تبدأ الصباحات وبه تنتهي الليالي. ويقدّر عدد الحسابات الناشطة على الموقع بنحو 2.23 مليار حساب ناشط شهرياً بحلول الربع الأول من العام 2018، منهم 1.4 مليار حساب ناشطين في شكل يومي (إحصاءات فايسبوك، 2018)، وتتنوّع الحسابات بين حسابات أفراد وجماعات ومؤسّسات. يتوزّع المستخدمون اليوميّون على ثلاث مناطق، نحو الثلث (31.5%) منهم يتواجدون في أميركا الشمالية وأوروبا، في حين يتركّز نحو 37% في آسيا والباسيفيك و31% في باقي مناطق العالم بما فيها أفريقيا وأميركا اللاتينية والوسطى وأستراليا. يقوم هؤلاء مجتمعين بإنتاج ما مجموعه نصف مليون تعليق و293 ألف «ستاتوس» وتحميل نحو 136 ألف صورة في الدقيقة الواحدة. ويضمّ الموقع رسمياً 30275 موظفاً يعملون في مختلف دوائر ومكاتب الشركة في العالم (إحصاءات فايسبوك، 2018). بحسبة صغيرة يتبيّن أن مقابل كل موظّف في الشركة يوجد نحو 46 ألف مستخدم يومي (بناء على رقم الحسابات الناشطة في شكل يومي). إلا أن إمبراطورية فايسبوك التجارية تمتدّ لتشمل منصّات أخرى كإنستغرام، التي تعتبر الأكثر استعمالاً لتبادل الصور ومقاطع الفيديو الصغيرة بين أفراد محترفين وهواة (مليار حساب)، واتساب التطبيق الأبرز للمحادثات المباشرة (مليار ونصف مليار حساب)، تطبيق المحادثات ميسنجر (1.3 مليار حساب). هذا إضافة إلى أنها قد أصبحت شركة مدرجة في البورصة ونجحت بتسجيل أرباح وصلت إلى 1.69$ للسهم الواحد، بمجمل عوائد وصل إلى 11.97 مليار دولار أميركي في الربع الأول من العام 2018، لتسجّل بذلك نمواً وصل إلى حدود 49% بالمقارنة مع الوقت نفسه من العام الماضي (واغنر ك.، 2018).

أمام هذا المشهد، يصبح من المهمّ طرح مجموعة من الأسئلة؛ أولاً، كيف تتمكّن الشركة من إنتاج هذه الأرباح؟ ثانياً، من هو الكادر البشري الذي يقوم بعملية الإنتاج (إذا ما استثنينا منظومة الخوارزميات التي تدير شبكة فايسبوك وتتحكّم بأدقّ التفاصيل وبشريط الأحداث Newsfeed

أما السؤال الثالث والأبرز، والذي يساعدنا بالإجابة على ما سبق، هو عن ماهية السلعة التي تنتجها هذه الشركة وتبيعها؟ فإذا ما حدّدنا طبيعة هذه السلعة فإنه سيكون بقدورنا تحقيق فهم أفضل لشبكة فايسبوك، وبالتالي حظوظ أعلى في تحديد الكادر البشري المُنتج وصولاً لفكّ شيفرات مسار الإنتاج الرأسمالي الذي تعتمده فايسبوك ومعرفة كيفية إنتاجها للأرباح ومراكمتها لرأس المال.

للإجابة على هذه الأسئلة، علينا بداية أن نقطع مع المفهوم الدعائي أو الترويجي لفايسبوك كمنصّة للتواصل ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية وأحياناً سياسية حتى. خصوصاً أن هذا ما دأبت الشركة على الترويج له في حملاتها الدعائية ليطمس خلفه حقيقة أننا أمام منظّمة/ شركة تجارية لها مدير تنفيذي مؤسّس ومجلس إدارة وأقسام معنيّة بالتطوير التقني والمالي والدعائي. وهي كما بيّنا أعلاه واحدة من كبريات الشركات الرأسمالية العالمية الناشطة حالياً، والتي علينا أن نحدّد ماهية السلعة التي تبيعها. بالطبع لن نقارن فايسبوك بشركات إنتاج السيارات أو المعدّات الكهربائية ولا حتى شركات الإنترنت والأجهزة الخلوية، لكن فلنقارنها بشركات التلفزة على سبيل المثال أو الجرائد أو حتى بأقران لها كنتفليكس، التي أصبحت المنصّة الإلكترونية الأبرز لإنتاج وعرض الأفلام والمسلسلات بمختلف اللغات وتغطّي معظم المناطق الجغرافية في العالم.

في حالة شركات التلفزة والجرائد، على سبيل المثال، فإن المادة الأساسية المنتجة هي مواد ترفيهية أو تعليمية أو سياسية تقدّم للمستهلك في بيته أو مكتبه أو على القهوة، ليقوم باستهلاكها ويزيد من دائرة الوصول والتأثير التي تمتلكها شركة التلفزة أو الجريدة، ما يحسّن من حظوظها في بيع الحقّ بالوصول إلى هذه الجماعة من المستهلكين (المشاهدين والقرّاء) إلى المعلنين، بهدف الترويج لمنتجاتهم التجارية وتحسين مبيعاتهم. هنا تقوم الشركات من وقت لآخر بدراسات إحصائية لتحدّد حصّتها من سوق استهلاك المواد الترفيهية (وهذا ما يعرف بالرايتينغ والذي يختبره المشاهد اللبناني جيّداً عبر مجموعة البرامج الفضائحية التي تحتلّ أمسياتهم بهدف تحريك أكبر كتلة من المستهلكين في أيام الأسبوع)، التي يُنتجها مجموع شركات التلفزة أو الجرائد وتحدّد بناء عليه أسعار دقيقة الإعلانات المصوّرة أو المطبوعة كل وفقاً لحجمها أو موقعها. في هذه الحالة يقوم الجمهور بعملية استهلاك مزدوجة، فهم من ناحية أولى يستهلكون المادة الترفيهية المنتجة أو المقالات التي يقرؤونها (كما تفعلون الآن مع هذا المقال) ومن ناحية أخرى يستهلكون المادة الإعلانية المصاحبة لها، لكنهم يمتلكون أداة قوة أساسية متمثّلة بماكينة التحكّم عن بعد – الريموت كونترول – والتي تبقي لهم جزءاً من الحق بالاختيار بين القنوات أو الجرائد المتاحة. وهذا ما تسعى شركات التلفزة دوماً للحدّ منه أو التحكّم به. إلا أن شركة فايسبوك هي من نجحت به عبر نموذجها التجاري الاحتكاري والذي سلب المستخدم حقّه بالاختيار بين أكثر من منصّة إلكترونية للتواصل الاجتماعي. يقول مارتن كيني – الباحث في جامعة بيركلي – أن رأسمال المنصّات الإلكترونية هو رأسمال لا يمكن له التعايش بسهولة مع المنافسة، فالفائز يأخذ السوق بمجمله. وهذا ما حصل مع فايسبوك التي نجحت ومنذ انطلاقتها بالاستحواذ على معظم المنصّات التي كان يمكن لها المنافسة أو حتى تقديم خدمات مساعدة لعملية التواصل الاجتماعي. يمكن لأي قارئ متخصّص الاطلاع على لائحة الاستحواذات عبر زيارة صفحة الشركة على موقع ويكيبيديا والتي - وإن كانت ليست مرجعاً علمياً - توفّر كمّاً وافياً من المعلومات لغير المتخصّصين. إذاً، نحن أمام شركة عالمية تحتكر التقديم «المجاني» لخدمة «التواصل الاجتماعي» لحوالي ثلث البشرية من دون منافس وتتمتّع بآحادية مطلقة بتحديد معايير الاستخدام، وهذا ما يظهر جلياً عند كل تغيير تعتمده الشركة على تصميم شريط الأحداث أو إدخال خدمات جديدة. لكن ماذا يشكّل «التواصل الاجتماعي» بالنسبة لمجمل مسار الإنتاج الفايسبوكي؟ هل يمكن اعتباره السلعة التي تبيعها الشركة؟ إذا ما سلّمنا جدلاً، لكنّها تبيعه لمن؟ فالمستخدمون لا يدفعون أي بدل مقابل الحصول عليه والمعلنون لا يكترثون به. إذا ما حاولنا تفكيك عملية التواصل الاجتماعي عبر فايسبوك، يتبيّن لنا أنها عملية تجري بين مستخدمين (على الأقل) شريطة الاتصال بشبكة الإنترنت، ويحتّم أن يقوم طرف أوّل بعملية إنتاج محتوى (قد يأتي بشكل ستاتوس، تحميل صورة، التعليق/ الإعجاب بمحتوى أنتجه طرف ثان) ويعرضه على شريط أحداثه أو أن يبدأ بمحادثة سريعة عبر المسينجر. إلا أن عملية التواصل لا تتحقّق إلّا عند النجاح بالحصول على ردّ الأثر من طرف ثانٍ موصول على شبكة فايسبوك. في المحصلة، فإن التواصل الاجتماعي الذي تقدّمه فايسبوك لمستخدميها ليس مادة ترفيهية تنتجها أو تشتريها ولا يشبه مقالاً تنشره جريدة ما، بل هو مسار إنتاجي بعينه يتضمّن استخدام قوة عمل بشرية متمثّلة بالقدرات الذهنية والجسدية للمستخدمين (كالطباعة والقراءة والتحليل للمحتوى)، مواد أولية متمثّلة بجملة الحالات النفسية، الذكريات، المشاعر وغيرها من المواقف الاجتماعية والسياسية والتي يُعبّر عنها ويصار إلى تحويلها عبر وسائل إنتاج تقنية (كومبيوتر، هاتف أو كومبيوتر لوحي). إن فهم عملية التواصل الاجتماعي في زمن الفايسبوك عبر هذا المسار الإنتاجي هو شرط أساسي للبدء في تفكيك نموذج التراكم الرأسمالي لفايسبوك وتحديد تفصيلي لطبيعة العلاقات بين مختلف العناصر المتدخّلة في عملية الإنتاج (المستخدمين، الخوارزميات، شركة فايسبوك والمعلنين) وتحديد أدوارها بالارتكاز على معادلة كارل ماركس العامة (نقود - سلع - نقود) للتراكم الرأسمالي. وهذا ما سيشكّل محور الجزء الثاني من هذا المقال.

 

* باحث في اقتصاد المنصّات الإلكترونية

المصدر: جريدة "الاخبار".


مشاهدات 1903
أضيف 2018/09/23 - 1:21 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 6678 الشهر 65535 الكلي 7523570
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/3/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير