قضية الكهرباء في العراق.. المشكلة والحلول

1- الفساد وسوء الإدارة

في العام 2003 أشرف البنك الدولي وموّل (14) دراسة لتقديمها إلى مؤتمر المانحين والداعمين الذي انعقد في مدريد في تشرين أول من ذلك العام، تحت عنوان ((تقارير تقديرات الحاجة – Needs Assessment Reports)). وكانت بين تلك الدراسات دراستان أعدهما مكتب استشاري كنتُ مشاركاً فيه، بالتعاون مع دار (الخطيب وعلمي) اللبنانية، وكان مكتبنا هو المكتب العراقي الوحيد الذي نجح في بلوغ معايير البنك الدولي لتلك الدراسات. والدراستان اللتان اعددناهما هما:

1- معالجة الدعم الحكومي:

- البطاقة التموينية

- الكهرباء

- المنتجات النفطية

2- الخدمات البلدية: حجم المشكلة وسبل حلها:

- المياه الصالحة للشرب

- المجاري

وفي ما يتعلق بمشكلة الكهرباء، توصلتْ الدراسة إلى ضرورة غلق الفجوة بين العرض والطلب خلال مدة (2-3) سنوات، والاعتماد على الغاز المصاحب للنفط الخام والغاز الحر من المكامن الغازية المنتجة وكذلك المكتشفة ولم تدخل الإنتاج بعد، واعتبرت توفر الكهرباء المحرك الحيوي للنهوض بالاقتصاد بالإضافة إلى تطوير نوعية الحياة والرقي بها في مرحلة ما بعد التحرير.

لم تكن تقديرات الزمن المطلوب لرفع الطاقة الإنتاجية للكهرباء من خمسة آلاف ميغاواط إلى عشرة آلاف مبالغاً فيها، فتجربة تزويد محطة كهرباء أربيل (ألف ميغاواط في البداية) أثبتت إمكانية إكمال عمليات معالجة الغاز في حقل طق طق وبناء محطة كهرباء غازية، بتزامن لم يتجاوز السنتين بين التعاقد وإنتاج الكهرباء دون كلفة على الإقليم سوى قوائم تسديد شراء الكهرباء بأسعار ثابتة على شبكة الضغط العالي العمومية.

القيادات المتعاقبة على الكهرباء في بغداد منذ عام 2003 إلى تاريخ قريب (وقسم مهم منها مستمر لهذا اليوم) أوغلت بالفساد. ومثلها القيادات القائمة على إنتاج الغاز، فزاد إحراق الغاز باستمرار، وزادت الفجوة بين إنتاج الكهرباء والطلب عليه، وذهب رئيس مجلس الوزراء مؤخراً إلى مؤتمر باريس للتغير المناخي والتلوث وهو يصرح أن العراق يحرق الغاز منذ قرن من الزمان ويلوث بلده ويلوث العالم! ولا نعلم ما الذي منع وزير النفط ورئيس مجلس الوزراء من تنفيذ حلول عاجلة لمعالجة الغاز والاستفادة منه في إنتاج الكهرباء والاستعمالات الأخرى؟.. ما الذي تسبب في أن يستورد العراق الغاز من إيران لتزويد إحدى محطات الكهرباء الغازية ولا يوقف محرقة الغاز الأخطر في العالم؟

في مطلع العام 2011 توليتُ رئاسة لجنة النفط والطاقة البرلمانية. ومن أول الأعمال التي قامت بها اللجنة هي البحث مع وزير النفط آنذاك (رعد شلال) بشأن استثمار المعدات التي اشتراها العراق بحوالي سبعة مليارات دولار من شركتي جنراك إلكترك وسيمنز منذ العام 2008، وكانت لا تزال ملقاة في العراء تندثر وتتقادم، وطلبنا منه إحالة تلك المعدات إلى شركات استثمارية لتكمل نصبها من اجل إنتاج ما لا يقل عن خمسة آلاف ميغاواط. وتم وضع شروط للعطاءات على أن يشتري المستثمر المعدات بنفس الأسعار التي تم الاستيراد بها، وتشتري الوزارة بموجب مناقصة عالمية الوحدات الكهربائية من المستثمر، وكان ذلك سيجلب دخلاً للوزارة لا يقل عن خمسة مليارات دولار.

بعد ثلاثة أشهر اكتشفنا أن الوزير، بدعم من رئيس لجنة الطاقة الوزارية، قرر طرد جميع المستثمرين بحجة أن الوزارة قادرة على القيام بهذا العمل بكلفة أقل. وهكذا دخل العراق مرة أخرى في دوامة الفساد وسوء الإدارة والهدر، واستمرت الفجوة بين العرض والطلب بالتفاقم.

في تشرين أول 2010 صدر قرار مجلس الوزراء رقم (93) بإحالة عقود بقيمة أكثر من ستة مليارات دولار إلى أربع شركات لتجهيز العراق بمولدات تعمل بالديزل. ولم يكن بين الشركات الأربع أية شركة منتجة للديزلات! والغريب أن ذلك القرار إتخذ من أوله إلى آخره في نفس اليوم على النحو الآتي:

- لجنة العطاءات في الوزارة تجتمع وتدرس وتوافق.

- لجنة الطاقة الوزارية تجتمع وتدرس وتوافق.

- الأمانة العامة لمجلس الوزراء تدرس وترفع القرار إلى مجلس الوزراء للموافقة.

- مجلس الوزراء الذي اجتمع في نفس اليوم يصادق على تخويل الوزارة التعاقد مع شركات أربع بعينها بمبلغ يفوق ستة مليارات دولار لشراء ديزلات من شركات وهمية لا تنتج شيئاً!

ومن تداعيات مهزلة شراء الديزلات أنها لا تصلح للاستعمال المستقر على الشبكة بل يتم تشغيلها، عالمياً على نطاق محدود للطوارئ فقط، علاوة على أن العراق يعاني من نقص في إنتاج الديزل بينما يتوفر فيه غاز طبيعي يتم إحراقه.

بعد فترة من توليتي رئاسة لجنة النفط والطاقة تفجّرت مجدداً مهزلة العقود الوهمية في شراء الديزلات، وتشكلت لجنة تحقيقية في مجلس النواب من لجنة النفط والطاقة ولجنة النزاهة، وتوليت برئاسة اللجنة التحقيقية التي توصلت إلى أن جميع الحلقات المتعلقة بتلك العقود الوهمية عليها شبهات فساد، من المفتش العام بالوزارة إلى نائب رئيس الوزراء ورئيس لجنة الطاقة الوزارية، مروراً بالوزير ووكلائه.

رغم كل فضائح الفساد في صفقات الديزلات وشركاتها الوهمية، أصر القائمون على قرار الطاقة شراء ديزلات بقيمة تقارب المليار دولار، ونصبت في أماكن متفرقة، تُزوّد بوقود مُستورد باهظ الكلفة يُنقل بالصهاريج على طرقات مزدحمة. ودخل الفساد على النقل والاستلام، كما دخل على الصيانة. ولا تزال هذه الوحدات تعاني من شح الوقود وسوء الإدامة، وبالتالي قلة التشغيل التي لم تتجاوز 50% في أغلب الأحوال.

كما استمر الفساد وسوء الإدارة في عقود الصيانة والتجهيزات لمنظومات الإنتاج والنقل والتوزيع واستمرت الهوة بالإتساع بين العرض والطلب، ففي نهاية العام 2013 بلغ الطلب على الكهرباء، بتقدير بعض الخبراء، حوالي (20.000) ميغاواط، والإنتاج الفعلي الواصل للمستهلك يتراوح بين (5.000- 7.000) ميغاواط، وشبكات النقل والتوزيع تتردى بأسرع مما تقوم به الأجهزة الفاسدة من ترقيع.

اعدت وكالة الطاقة الدولية (I.E.A.) دراسة لمنظومة الطاقة في العراق استمرت سنتين، وعرضت ببغداد في العام 2013، وقدرت الدراسة الأضرار التي يتحملها الاقتصاد والمجتمع العراقي من عدم توفر الكهرباء بشكل منتظم بحوالي (40) مليار دولار سنوياً. لا يوجد هدر وضرر وسوء إدارة بهذا الحجم في العالم أجمع. كما قامت هيئة المستشارين بمساعدة البنك الدولي بتكليف الاستشاريين (بوز آلن Booze Allen.) لوضع ستراتيجية وطنية شاملة للطاقة (I.N.E.S.)، وأكدت الدراسة أن ضرر الاقتصاد العراقي من عدم توفر الكهرباء هو بحدود (40) أربعون مليار دولار سنوياً أيضاً.

2- الحلول

نعود بالحلول إلى ما توصلنا إليه في الدراسات التي قُدّمت من خلال البنك الدولي إلى مؤتمر المانحين والداعمين في شهر تشرين أول عام 2003 في مدريد.

كانت توصيات الدراسة التي قمنا بها تهدف إلى الاستعمال الفوري والمباشر للغاز المصاحب لإنتاج النفط الخام والغاز الحر في الحقول الغازية المعروفة لتوفير وقود للكهرباء، والاستثمار المباشر في إنتاج الكهرباء. وفي نفس الوقت المباشرة بالجباية الشاملة والكاملة عندما يتجاوز تجهيز الكهرباء ثلاثة أرباع الطلب- أي توفير (7.000) ميغاواط في 2006، ومن ثم المضي بالتصعيد في إنتاج الطاقة بالاستثمار المباشر، والجباية الكاملة.

حدثت عدّة مستجدات منذ ذلك التاريخ، أهمها مضاعفة الطلب على الكهرباء إلى أكثر من (20.000) ميكاواط في 2017. وكذلك الانتشار المروّع للمولدات الأهلية التي تشغل بزيت الغاز (الديزل) المستورد، وتلوثت البيئة بالانبعاثات القاتلة، وتلوث الفضاء بالصوت المدوي، وتلوث الشوارع بالعنكبوتيات من خطوط الإمداد. كل هذا بكلفة على المواطن لا تقل عن (2-3) مليارات دولار، وهدر للوقود الشحيح بمبلغ مقارب لهذا المبلغ مدعوماً من الدولة ومن قوت المواطن.

التغير الإيجابي هو توفر الطاقة الشمسية بكلفة مقاربة لكلفة إنتاج الكهرباء بالحراريات. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار توفر الشمس طوال السنة تقريباً، وتزامن قمة استهلاك الكهرباء في الصيف وفي النهار بالذات، فبإمكان العراق فتح مجال الاستثمار المباشر في الطاقة الشمسية أثناء النهار وبدون بطاريات أو خزن للاستهلاك الليلي، فإننا نستطيع توفير ما لا يقل عن (2.000) ميغاواط لدعم المنظومة الوطنية من خلال الاستثمار المباشر في الطاقة الشمسية، وبدون كلفة إضافية.

يزداد حرق الغاز مع إزدياد إنتاج النفط، ومتاح للعراق عدة حقول غازية، بما فيها حقل (عكاز) وما يجاوره بعد تحرير المنطقة الغربية.

هناك تقنيات حديثة تمكننا من المضي بإنهاء حرق الغاز بطريقين:

1- المعالجة التقليدية بعزل مكونات الغاز والاستفادة من منتجاته العرضية بما فيها السوائل الهيدروكوربونية ذات القيمة السوقية العالية، والاستفادة من بعض المكونات الأخرى في الاستعمالات المنزلية والصناعة.

2- الاستعمال المباشر للغاز بطوربينات حديثة قادرة على تحمل حموضة الغاز الخام ومكوناته التي كانت تعتبر مسبّبة لتلف الطوربينات.

بالإضافة إلى التوسع السريع في استعمال الغاز لتوليد الكهرباء وإنهاء الحرق الملوث للعراق والعالم، فمن الضروري استثمار جميع محطات إنتاج الكهرباء الغازية في الدورة المركبة (Combined Cycle) لإنتاج 50% إضافية من الطاقة دون الحاجة إلى وقود إضافي وذلك بالاستفادة من الحرارة الناجمة من الدورة الأولى بتشغيل دورة ثانية. ويتم كل ذلك بالاستثمار المباشر دون الحاجة إلى استثمارات من الموازنة العامة للدولة.

وصلت الطاقة الكهربائية المنتجة حالياً إلى ما يقارب 70% من الطلب الفعلي، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار السيطرة على الضائعات في النقل والتوزيع وإنهاء التجاوزات على الشبكة.

ينبغي أن تمضي وزارة الكهرباء بجرأة، خدمة للمصلحة العامة، نحو الجباية الشاملة للكهرباء، فما يكلف صفراً يتحول الطلب عليه إلى التبذير الفلكي، وهذه قاعدة اقتصادية معروفة، فلا ترشيد للكهرباء دون أن يكون لهذه السلعة كلفة معقولة.

وعلى العموم، ينبغي أن تكون ستراتيجية العراق الكهربائية في الإنتاج هو التصاعد مع توفر الغاز، حتى يتجاوز عرض الكهرباء الحاجة الحالية والمستقبلية للاستهلاك المحلي. وفي نفس الوقت ينبغي توفير الغاز للكهرباء والاستهلاك المنزلي والصناعات المحلية بكلفة الإنتاج الفعلية، وهذا يوفر دعماً للمواطن وميزة للصناعات المحلية.

على العموم، ينبغي تحويل وزارة الكهرباء إلى هيئة ممولة ذاتياً ابتداءً من العام 2019، وتكون تسعيرة الكهرباء كافية لتغطية كلفة تطوير وإدارة الشبكة الوطنية التي تدفع كلفة الإنتاج للمستثمر وتجبي من المستهلك ما يغطّي كلف الإنتاج والنقل.

بهذه الستراتيجية يكون العراق مهيئاً لأن يكون مصدراً للكهرباء، وهو عضو في الربط الإقليمي شمالاً وغرباً، وسوف يكون عضواً في الربط الإقليمي جنوباً. كل هذا سيجعل من العراق لاعبا مهماً في مستقبل الطاقة الكهربائية في الشرق الأوسط، بعد أن كان غارقاً في دوامة أسوأ عملية فساد وهدر وسوء إدارة في التاريخ.

إن قضية الكهرباء في العراق لا تتعلق بالمال، فقد تمّ هدر قرابة ستين مليار دولار لغاية الآن دون جدوى، وتغرق وزارة الكهرباء بالبطالة المقنعة من الأميين يتجاوز عددهم (120.000)، وهي لا تحتاج لأكثر من ألفين من الفنيين والمراقبين. إذ أن حلّ مشكلة الكهرباء في العراق، مثل بقية مشاكل البلاد، هي في الإدارة وليس في المال.

* عضو مجلس النواب، رئيس لجنة النفط والطاقة النيابية السابق، رئيس مركز البحوث والدراسات العراقية (مبدع).

 


مشاهدات 4275
أضيف 2017/12/24 - 10:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 2408 الشهر 65535 الكلي 7984523
الوقت الآن
الجمعة 2024/4/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير